فلسطينيات >داخل فلسطين
مهنة التمريض.. حلم رزان الذي لم يكتمل
مهنة التمريض.. حلم رزان الذي لم يكتمل ‎الأحد 3 06 2018 16:15
مهنة التمريض.. حلم رزان الذي لم يكتمل

جنوبيات

على عجلةٍ من أمرها سألت رزان أمها: "شو طبخالنا اليوم ماما؟، لسه مش عارفة يا بنتي..طيب اطبخيلنا ورق عنب جاي عبالي كتير". ثم ودّعتها وخرجت مهرولة إلى وجهتها المعتادة ، حيث أبناء شعبها يتظاهرون منذ شهرين بُغية العيش الكريم. تحاول توظيف خبرتها في الإسعاف الطبي بكل ما أوتيت يداها الرحيمتان من قوة، تتنقل بخفّة بين المصابين علّها تخلّص حياة أحدهم من الموت على يد القناصة "الإسرائيلية" الذين يتلذذون باستهداف العزّل. ولم تكن تعلم أنها ستواجه المصير ذاته يوم الجمعة بعد استهدافها برصاصة متفجرة اخترقت صدرها وخرجت من ظهرها، لتنهي حياتها على الفور.

حياة المُسعفة رزان النجار (21عاماً) كانت ملأى بالمنغّصات والكدر، وبالأحلام أيضاً. عُسر الحال أصاب عائلتها منذ سنوات طويلة، لتتجرعه البنت البِكر المشاكسة، التي لم تتمكن من إكمال دراستها الأكاديمية، وتحقيق حلمها في أن تمارس مهنة التمريض، ما دفعها للبحث عن طريقٍ آخر علّه يتيح لها فرصة للعمل في نفس المجال، دون تحميل والديها أي أعباء مالية، فخضعت لـ38 دورة تدريبية أهّلتها لاحقاً للعمل في الإسعاف الطبي، الذي مارسته تطوعاً في مستشفى ناصر الطبي جنوب قطاع غزة، ومن ثم احترفته مجاناً، منذ اليوم الأول لمسيرة العودة الكبرى، التي انطلقت في 30/آذار الماضي في المنطقة الحدودية.

كانت رزان ذات الصوت الرخيم، تتجهز يومياً للعمل منذ الساعة السابعة صباحاً، تحضّر المعدّات الطبية وترتدي معطفها الأبيض، ثم تنطلق صائمة إلى منطقة خزاعة الواقعة شمال محافظة خانيونس جنوب القطاع. وتباشر تقديم الخدمات الإسعافية للمصابين بالغاز والرصاص دون توقف، تسعف بيدها اليمنى وتمسح عرقها المتصبب بفعل لهيب شمس الظهيرة بيدها اليسرى، ثم ترفع رأسها للسماء تلتقط بعضاً من أنفاسها، وتكمل العمل، لتعود إلى منزلها والدم يلطّخ معظفها الذي كان يتحول لونه إلى وردي. كما قالت أمها لـ"وكالة القدس للأنباء".

جسدها كان ينتفض من التعب الجسدي والنفسي، فصور المصابين والشهداء لم تكن تفارق مخيلتها، حتى في ساعات نومها وجلساتها مع أخوتها الأربعة، الذين تلقوا منها رعاية واهتماماً كما لو كانوا أبناءها. كان الجزء الأكبر من أحاديثها يدور حول تلك المشاهد، أما ذلك الشهيد الذي ارتقى بين يديها، فهو أكثرهم تأثيراً في نفسها. رأت فيه الضعف والشموخ معاً، رأت في احتضاره كيف يسنّ قانون الغاب، كيف تعلو لغة الدماء على كل شيءٍ، وكيف يتنكّر العالم للمظلومين، ما زاد من إصرارها على العمل (المحفوف بالموت) .

احتدمت الأحداث وازدادت أعداد الشهداء والمصابين على مرآى عينيها، إلأ أنها لم تتوانَ عن تقديم العوْن والإسعاف. ساعدتها جرأتها في التقدم نحو السياج الفاصل لإنقاذ الجرحى، رافعة يديها أعلى كتفيها، وعلى صدرها شارة الإسعاف الطبي التي من المفترض أن تحميها من الاستهداف . نجحت مراراً في سحب المصابين، رغم تهديدات الجنود لها، وأنقذت وزملاؤها حياة العديد من المتظاهرين، وكان ذلك الأحب إلى نفسها، رغم إصابتها مرات عدة بالغاز، وبالشظايا.

يوم الجمعة تجهّزت رزان كعادتها للعمل الإنساني، لكن كان عليها إنجاز مهمة قبل ذلك، إذ أصرت على الخروج للسوق لشراء ملابس العيد لأخوتها، قبل الموعد المعتاد كل عام، ومن ثم ذهبت إلى خزاعة، وانهمكت في الإسعاف بين شاب غارق بدمائه وطفل امتلأت رئتاه بالغاز السام. حتى سمعت صراخ شاب أصيب بعيار ناري، وكان على مقربة من السياج. على الفور تقدمت وإحدى زميلاتها لإسعافه، رافعة كلتا يديها للأعلى، وأخذت تبطئ خطواتها حينما اقتربت منه، لكنها شعرت فجأة بحرارة شديدة بصدرها، ووجدت نفسها تتهاوى بعدما أصابها الجنود "الإسرائيليون" برصاصة متفجرة في صدرها. فقدت وعيها، وخلال لحظات فارقت الحياة، وعادت لأمها التي انتظرتها لتتناول (ورق العنب) محمولة على الأكتاف.تاركة خلفها حلمها الكبير، وآهات محبيها.