تسعة عشر شهرًا من الموت المفتوح، من المجازر اليومية، من الإبادة المنهجية لعائلاتٍ فلسطينية كاملة تُمحى من السجلات المدنية، لا ينجو منها رضيع ولا مسنّ، لا ظلّ يبقى لشجرة ولا خيمة.
تسعة عشر شهرًا من حربٍ ابادة لا أخلاقية، تسير بغطاء دولي فاضح، وبصمتٍ أممي مشين، وبمنظومة عدالة دولية أصبحت شريكة بالجريمة بصمتها أو انتقائيتها.
لم يعد السؤال "كيف نوقف الحرب؟"، بل "لماذا لا تتوقف؟ ومن يمنع وقفها؟"
في مخيمات النزوح، التي يُفترض أنها مناطق آمنة وفق ما يعلنه جيش الاحتلال نفسه، تحوّلت الخيام فيها إلى محارق، عائلات مثل عائلة أبو عنزة، وعائلة كلاب، وعائلة قديح، وعائلة أبو شعيرة، وأخيرًا لا آخرًا، عائلة البحيصي، وعائلة ابو الروس أُبيدت بالكامل، بعضهم حرقًا وهم نائمون، تحت قصفٍ لم يُبقِ ولم يذر في مواصي خان يونس.
المشهد تراجيدي إلى درجة أن المقابر لم تعد تتسع، وصارت الجثث تُدفن في ساحات المدارس ومداخل المستشفيات، بل حتى بلا دفن في كثير من الأحيان.
فلماذا لا تقف هذه المقتلة؟
الجواب يرتبط بنقطة مفصلية في فهم ما يجري: هل كانت "حماس" ضرورة لليمين الصهيوني المزدوج؟ الجواب، وبشكل مؤلم، نعم.
لقد استخدمها نتنياهو وأمثاله ذريعة لتبرير أطول حملة إبادة ضد غزة، وغطاءً لتصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية، لقد كانت "المقاومة" في خطابه وقودًا لاستقطاب التطرف الداخلي، وتعزيز دعم الغرب له تحت لافتة "مكافحة الإرهاب"، بينما الهدف الحقيقي كان دومًا هو نسف أي أفق لحلّ الدولتين، والانقلاب الكامل على مسار السلام، وتحويل القضية الفلسطينية من مسألة تحرر وطني إلى "أزمة إنسانية" تُدار بالإغاثة لا بالسياسة.
لم تكن الحرب ضد "حماس" فحسب، بل ضد الوجود الفلسطيني نفسه، ضد الأمل، ضد التاريخ، ضد الجغرافيا التي يريدونها بلا فلسطينيين.
ومن هنا نفهم لماذا تتعثر مفاوضات وقف إطلاق النار؛ لأن المطلوب ليس وقفًا للنار فقط، بل استسلامًا فلسطينيًا كاملًا، وتنازلًا عن كل الثوابت، وقبولًا بدفن الحق الوطني تحت أنقاض غزة.
والغرب يغض الطرف، يراوح بين تصريحات باردة عن "القلق"، وبيانات خجولة عن "الهدنة"، بينما يُسمح للإبادة أن تستمر، طالما أنها تحقق الهدف الصهيوني الأبعد وهو تصفية القضية من بوابة حماس/غزة.
إن وقف هذه المقتلة لا يكون بالتمنّي، بل بكسر المعادلات المختلة، وبكشف الجريمة، وفضح التواطؤ، وفرض إرادة الشعوب الحرّة على حكوماتها، ودعم الصمود الفلسطيني سياسيًا، ومعنويًا، وماديًا.
لا بد من وقف فوري لإطلاق النار، ورفع الحصار، ومحاكمة الجناة، وإعادة إعمار ما دمّرته آلة الحرب.
وإلا فستظل "كفى" مجرد صرخة في الفراغ، ويظل الدم الفلسطيني أرخص ما على هذه الأرض.