أشارت وسائل إعلام إسرائيلية إلى أن رئيس حكومة إسرائيل، بنيامين نتنياهو، أرسل للمرة الأولى إشارات واضحة إلى أنه «يسعى إلى إنهاء الحرب في غزة»، وذلك في أعقاب وقف إطلاق النار مع إيران والتحركات الأميركية نحو «شرق أوسط جديد».
وجاء في تقرير «القناة 12» الإسرائيلية أن «النيّة الآن هي محاولة التوصل إلى اتفاقيات تطبيع مع دول جديدة»، وهو مسار يمّر عبر تبادل أسرى وإنهاء العملية العسكرية في غزة.
مقنعة هي الحجج التي حاول نتنياهو محاكاة فيها أعضاء حكومته ذات اليمين المتطرف، في سبيل تمهيد الطريق أمام التوصل إلى إنهاء الحرب في القطاع بعدما أصبح هذا هدف الإدارة الأميركية الرئيسي. إذ خرج الكثير من الصقور في الكونغرس الأميركي وفي المعارضة الإسرائيلية وداخل أركان جيش الدفاع، على تأكيد أن استمرار الحرب في غزة لا جدوى ميداني منها، سوى استنزاف العسكر وقتلهم حيث أكدت مصادر عسكرية إسرائيلية أنه قتل ٣٠ عسكرياً من أذار إلى اليوم. لهذا ذهب رئيس الوزراء الأسبق نفتالي بينييت بعيداً في قوله أن نتنياهو «يجب أن يترك منصبه، على اعتبار أن توليه لهذا المنصب جلب كارثة على البلاد».
بدأ نتنياهو حربه في السابع من تشرين الأول عام 2023، على اعتبار أن الهدف يبقى تدمير حركة حماس والإفراج عن كافة المحتجزين في القطاع، هذا في العلن، ولكن ما خفي يبقى هو التهرّب من ملفاته القضائية التي باتت تلاحقه، فهل رسّخت معادلة جديدة «وقف محاكمة نتنياهو مقابل وقف الحرب»؟
لا شيء تغيّر في المعادلة الداخلية في غزة، رغم التصعيد الأخير الذي شهده القطاع من قصف عنيف ليل الاحد 29 حزيران، فحركة حماس لم تزل فى أكمل جهوزيتها القتالية مع العدو، ولم تزل قادرة على الإيقاع بالإسرائيلي وتنفيذ الهجمات، ولم يزل المحتجزون داخل القطاع داخل الأنفاق، ولا يمكن الإفراج عنهم إلّا بعملية دبلوماسية وعبر تسوية مع الحركة، فما الذي تغيّر إذَا حتى يتم الحديث عن وقف النار في غزة؟
تشظّت الحرب على غزة، وفتحت أكثر من جبهة في المنطقة إلّا أن جميعها انتهى بتسوية. فبعد حرب الإسناد التي فتحها حزب الله في جنوب لبنان، انتهت في 27 تشرين الثاني الماضي على تسوية وقّع خلالها لبنان على تنفيذ قرار رقم 1701، التي تتضمن انسحاب الحزب من منطقة جنوب الليطاني. التزم الحزب والدولة اللبنانية في بنود الاتفاق، ونُشر الجيش اللبناني في الجنوب. رغم الاعتداءات المتكررة الإسرائيلية إلّا إن مسار الحرب تغيّر على هذه الجبهة وإن مصطلح التطبيع بدأ يصبح لغة المتحاورين وشكّل هدف الدبلوماسية الأميركية تجاه لبنان.
على خلاف جبهة لبنان، لم تنتهِ حرب إسرائيل مع حركة الحوثيين في اليمن، الذي أعلن المتحدث عن الحركة، يحيى السريع، السبت 28 حزيران الماضي عن استهداف قواته إسرائيل بعد إطلاق صاروخ «ذي الفقار»، مدّعياً إصابة هدفه، فهذه الجبهة مرتبطة أيضاً بوقف الحرب على غزة.
جبهة أخرى دخلت قطار الحرب في المنطقة، وتمثلت في هجوم مباغت شنّته الطائرات الإسرائيلية على مواقع داخل إيران، أدّت إلى مقتل العشرات من علمائها النوويين وقادة قواتها الأمنية. دامت الحرب 12 يوماً، تدخّلت فيها الولايات المتحدة عبر قاذفاتها الاستراتيجية، وأدّت بحسب زعم الأميركي والإسرائيلي إلى تدمير المواقع الإيرانية النووية والأهم منشأة «فوردو» لتخصيب اليورانيوم. انتهت الحرب الإيرانية - الإسرائيلية، وكانت التسوية عنوان المرحلة على قاعدة لا إسقاط للنظام مقابل اعطاء إسرائيل انتصاراً يتمثل في إبعاد خطر التوصل إلى إنتاج قنبلة نووية إيرانية.
رغم التشتّت من الحرب المركزية، إلى حروب الأطراف، لكنها لم تستطع أخذها بعيدا عن محورية غزة، رغم إن توسّعها شكّل التخوّف الأبرز عند المتابعين على اعتبار أن دخول إيران يعني مشاركة حلفائها، ما فتح التكهنات على أننا قاب قوسين من حرب عالمية ثالثة. إلّا أنّ الرياح سارت عكس سفن التوقعات، فإدارة ترامب لم تكن تسعى إلى حرب واسعة، بل اكتفت بتوجيه رسائل لأكثر من طرف. وما تبيّن أن «الفرملة» أميركية - إسرائيلية نحو بناء شرق أوسط جديد، اصطدمت بمقاومة أساسية في غزة، شعباً ومقاومةً، وإن عجز الاسرائيلي على إنهاء الحرب على طريقة إسقاط حماس وتحرير الأسرى لم يتحقق.
الصمود في غزة عدّل في الكثير من القرارات، ودفع بمنظمي الطرح لمشروع شرق أوسطي يعدّلون في مخططاتهم، وإن فكرة التهجير القسري لسكان غزة وقيام «ريفيرا الشرق» ليس بالأمر السهل تحقيقه. لهذا أفشلت المقاومة مشروع الشرق الأوسط الجديد، ورفعت من مستوى الحديث عن إقامة «دولة فلسطينية» على محمل الجدّ لا شرق أوسط جديد، ولا تهجير قسري لسكان غزة من القطاع، فالأمر يرتبط بكسر إرادة الإسرائيلي على تحقيق أهدافه في قطاع غزة.
ترافق مع الصمود الغزاوي، مقاومة من نوع أخر تمثل في فضح إسرائيل أخلاقياً على مستوى رفع الصوت دولياً في إدانة إسرائيل على جرائمها بحق المدنيين العزّل. إذ قال وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، الأحد 29 حزيران، لقناة «ال سي آي»، إنه لا مبرر لاستمرار العملية العسكرية الإسرائيلية بغزة لمواصلة احتجاز الرهائن.
وطالب بارو، بوقف فوري لإطلاق النار في غزة وإطلاق سراح الرهائن ووصول المساعدات دون عوائق. وأوضح أن مقتل 500 وإصابة 4 آلاف من منتظري المساعدات بغزة فضيحة وعار انتهاء للكرامة الإنساني.
ليست المقاومة وحيدة من فرضت واقعاً جديداً على مشروع أميركا في المنطقة، بل هناك التبدّل العام في المزاج الغربي المتمثل بالدول الأوروبية على أساس معاقبة إسرائيل على جرائهما. لهذا أتت المواقف الفرنسية والإسبانية على سبيل المثال، من مناهضة الإجرام الإسرائيلي بحق قطاع غزة.
لا حلول خارج غزة، ولا تسويات في المنطقة خارج إقامة الدولة الفلسطينية، هذا على ما يبدو ما بات يشكّل قناعة داخل أروقة البيت الأبيض. لهذا، سارع ترامب إلى الدعوة نحو وقف إطلاق النار في القطاع على اعتبار استمرار الحزب لا جدوى له، ولن يحقق الهدف بل إن الأمر يرتبط بتسوية ترتكز على محاكاة الطموح الفلسطيني وهواجسه ببناء دولته، إلّا أنّ الأمر يبقى متعلق برسم حدود هذه الدولة والآلية حكمها وإدارتها.