في السابع عشر من الشهر الجاري، قررت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية إجراء انتخابات للمجلس الوطني الفلسطيني. وفي ضوء ذلك، أصدر الرئيس أبو مازن في التاسع عشر من الشهر ذاته قرارًا يقود إلى تنفيذ هذا الاستحقاق في موعد أقصاه نهاية هذا العام.
وقد جاء هذا القرار في خضم حرب إبادة مستعرة، وتجويع قاسٍ، ومخططات تهجير واسعة لشعبنا في قطاع غزة، إلى جانب تزايد مخاطر الضمّ والاستيطان في الضفة الغربية، ومحاولات محمومة لتصفيةالقضية الفلسطينية برمتها. وبينما ينشغل الشعب الفلسطيني بكامل طاقته في مواجهة هذه التحديات المصيرية، أثارت الدعوة لإجراء الانتخابات استغرابًا شديدًا من حيث التوقيت، وأحدثت جدلًا واسعًا في صفوف الشعب وقواه السياسية، بلغ في بعض الأحيان حد الاتهام. لكن القاسم المشترك بين مختلف الآراء تمثّل في التأكيد على غياب الظروف الذاتية والموضوعية التي تتيح تحقيق هذا الهدف، رغم أهميته وضرورته، فالانتخابات العامة، خاصة للمؤسسات الوطنية والأحزاب، هي حق دستوري للمواطن الفلسطيني وواجب ينبغي تنفيذه. إلا أن غيابها للأسف أصبح هو القاعدة السائدة على مدى عقود، ما يجعل الاعتراض عليها صعبًا وخجولًا في بعض الأحيان. لكن في المنعطفات التاريخية والمفصلية، لا بد من الصراحة والوضوح؛ فالانتخابات، أيًّا كانت، تتطلب توفر بيئة مناسبة وظروف ملائمة تضمن إجراؤها بشفافية ونزاهة، حتى لا تتحوّل إلى قفزة في المجهول أو تؤدي بنا إلى خيار التعيين، الذي يبقى خيارًا غير مفضل بكل المعاني وبعيداً عن الاسباب التي يقدمها كل طرف لتسويق وجهة نظره ولكلٍ وجاهتها فانني أعتقد أن الخيار الأنسب في هذه المرحلة هو تشكيل مجلس تأسيسي لدولة فلسطين، خاصة وأن جوهر المعركة الأساسية لشعبنا يتمثل في انتزاع حقوقه الثابتة، وفي مقدمتها حق تقرير المصير، وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين.
وفي خضم هذه "معركة الدولة"، حققت الدبلوماسية الفلسطينية إنجازات ملحوظة، تجلّت في سلسلة من الاعترافات الدولية، لا سيّما من دول كانت مترددة في السابق، وكان آخرها ما ورد في رسالة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرئيس محمود عباس، بشأن استعداد فرنسا للاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول/سبتمبر القادم ويمثل ذلك مؤشراً مهمًا على إمكانية تحقيق اختراقات أوسع على الساحة الدولية، رغم المعارضة الأميركية المستمرة لهذا التوجه.
ولا بد من التأكيد أن تشكيل المجلس التأسيسي للدولة ليس بدعة فلسطينية، بل هو خطوة سياسية وقانونية اتبعتها شعوب كثيرة عند تحررها من الاستعمار والاحتلال وقد ضمت مجالس التأسيس تلك ممثلين عن الأحزاب، والقوى، والشخصيات الوطنية التي جمعتها رؤية مشتركة نحو إقامة الدولة، وفي الحالة الفلسطينية، يمكن أن يتشكل المجلس التأسيسي هذا من القوى والشخصيات المجمع عليها وطنيًا، بما يفتح كوة أمل تستحق كل جهد من أجل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، على قاعدة هدفٍ وطني واحد: إقامة الدولة الفلسطينية.
كما أن الالتزام بموجبات ومتطلبات هذا الخيار على الصعيدين السياسي والقانوني، محليًا ودوليًا، سيوفر معيارًا واضحًا لقياس مدى التزام القوى المختلفة بهذا المشروع الوطني الجاد. ويمكن للجنة التحضيرية الموسعة، التي أُعلن عن تشكيلها بقرار من السيد الرئيس، أن تتولى هذه المهمة، بحيث يُنجز تشكيل المجلس التأسيسي خلال الإطار الزمني المحدد،ويتولى المجلس، وفق القانون الأساسي، تشكيل حكومة مؤقتة، وممارسة الرقابة، ومعالجة التعقيدات القائمة، والعمل على تصويب النظام السياسي الفلسطيني وتحديثه. وفي الوقت ذاته، ينجز التحضيرات اللازمة للانتخابات العامة، في توقيت يسمح لشعبنا بتضميد جراحه والتعافي من آثار العدوان المتواصل.
إن الانخراط الجاد في تشكيل هذا المجلس التأسيسي في هذه اللحظة، حيث تتقدّم أولويات وقف العدوان والمجاعة والتهجير والضم وتصفية الحقوق، يُشكّل خطوة ضرورية ورغم قسوة اللحظة، فإن طرح هذا الخيار يشبه إشعال شمعة في عتمة دامسة، وصوتًا في وادٍ قد يبدو موحشًا، لكنه يحمل طاقة للخروج من عنق الزجاجة، التي يُصرّ الاحتلال وأعوانه على حشر شعبنا فيها، وحصر طموحاته في لقمة خبز وحلول إنسانية باهظة الثمن. أما تشكيل المجلس التأسيسي، إن تحقق بمسؤولية وطنية، فيفتح الباب نحو فضاء سياسي أوسع عنوانه الدولة والاستقلال، ويوجه رسالة واضحة للعالم:
"كما نطالب بالتعامل معنا كدولة، فإننا نمارس فعل الدولة"، ولا نرى السلطة القائمة كيانًا دائمًا، بل جسرًا للعبور نحو الدولة. وفي خضم التحديات والظروف الاستثنائية التي يمر بها شعبنا الفلسطيني، ومن قلب غزة الذي ينزف دماً، أكتب في وقت تتناثر فيه أشلاء الأطفال ويموت المئات منهم جوعاً بحثاً عن كسرة خبز. أختم بالقول إن تشكيل المجلس التأسيسي لدولة فلسطين هو الخيار الأصدق والأكثر واقعية لتحقيق حلم الاستقلال والكرامة. هذه الخطوة ليست مجرد إجراء سياسي، بل هي رسالة واضحة للعالم بأن شعبنا مصرّ على تقرير مصيره وبناء مستقبله، وضمان وحدته حول هذا الهدف، الذي يمثل السبيل الوحيد للخروج من أزماتنا الراهنة وبناء دولة فلسطينية مستقلة وعادلة تحفظ حقوقنا وتطلعاتنا.