الجمعة 28 نيسان 2023 23:01 م |
شيخ العقل في ذكرى الشيخ ولي الدين: رجل الأمانة والقائد اليعسوب |
* جنوبيات
ذكر شيخ العقل لطائفة الموحدين الدروز الشيخ الدكتور سامي ابي المنى بمواقف الشيخ الجليل الراحل أبي محمد جواد ولي الدين، وتشديده على "وحدة الصف وجمع الشمل والعيش المشترك في الجبل ووصولا إلى الأوطان والناس جميعا"، مجددا "الاستمرار على نهجه وحمل رسالته، والمحافظة على الثوابت التوحيدية والمعروفية والوطنية والإنسانية، وحسن التعامل مع المتغيرات".
الصرح الذي شكل غرسة طيبة في هذه الأرض الأبية، ينشر مبادىء الدين والأخلاق والقيم في نفوس أبناء مجتمعنا التوحيدي، ويزرع في نفوس الأجيال بذور الحقيقة والعرفان لتزهر خيرا ومحبة وعبقا من الإيمان.
وقال: "هنا لا بد من توجيه الشكر والتقدير لأفراد الهيئات العامة والإدارية والوظيفية الذين جسدوا أسمى معاني الوحدة والتعاون والألفة والمحبة، فكانوا أجسادا متفرقة في روح واحدة، يعملون بوفاء لتحقيق أهداف العرفان السامية في نهجهم وعملهم اليومي، ولن ننسى هنا ما قام به المرحوم الشيخ علي زين الدين في رئاسة المؤسسة على مدى عقود باخلاص وتفان خدمة للمجتمع التوحيدي كله، حتى وصلت العرفان إلى هذه المرحلة المشرفة. ولن ننسى أيضا جمعية أصدقاء العرفان التي يرأسها الأستاذ وليد بك جنبلاط والتي واكبت وتواكب المؤسسة في كل المراحل وتقدم الدعم اللازم بهدف الاستمرار والتطور".
وتابع: "لا بد من الإشارة إلى أن العرفان أحيت سابقا في هذه السنة بالذات الذكرى التاسعة عشرة لوفاة المرحوم سيدنا الشيخ ابو حسن عارف حلاوي، ونحن نستذكر دوما شيخنا الشيخ أبو محمد صالح العنداري وشيخنا الشيخ أبو ريدان يوسف شهيب، هؤلاء المشايخ الأجلاء الذين جسدوا خلال مسيرتهم الطاهرة النموذج الديني الحقيقي في وحدة الصف والتكاتف وجمع الأفرقاء على الخير والمحبة بسر التوحيد وقوة الإيمان، تحقيقا لعهد ولي الزمان في حفظ الإخوان ونبذ التفرقة والهجران". وتابع: "خمس واربعون سنة من التعاون والعمل والبناء، كان لكل مدماك فيه يد طيبة للشيخ سامي معلما ومديرا وأمينا عاما، بصدقه وتضحيته وحدسه ومحبته، بسعة فكره وطيب معدنه وقربه من الجميع، بشعره وكلمته المعبرة، بثقة مشايخنا الأجلاء به وبنظرة شيخنا الجليل الثاقبة وارتياحه له، بعلمه وانفتاحه وبقدرته على التمثيل الراقي للمؤسسة في المحافل التربوية والثقافية والاجتماعية والحوارية، بكل ذلك استطاع الشيخ سامي أن يرتقي مع ارتقاء العرفان، واستطاعت العرفان أن ترتقي بارتقائه، وها هي اليوم بفضل أمثاله من المخلصين تصل إلى ما وصلت إليه من تقدم واتساع، وها هو اليوم بما زرع من ثقة وبما أعطى وضحى يصل إلى أعلى المقامات في الطائفة والوطن، مقام مشيخة العقل، مستحقا ويستحقه المقام وتستحقه الطائفة والبلاد".
شيخ العقل وتابع: "أحييكم، ونحن نستذكر شيخنا الطاهر الجليل، فتطالعنا صورة ذلك الأسد الهمام، ناهضا بالدين، حاملا لواء العزة والكرامة، صارخا بوجه المعتدين على أرض الجبل وتاريخه، صرخة اهتزت لها البلاد ودونت في ذاكرة المجد وصفحات الرجولة، يوم وقف ذلك الشيخ المعمم بصفاء التوحيد وتراث الأجداد وحكمة الشيوخ الثقات مشددا عزائم الموحدين كي لا يخافوا إلا الله، ملتزما بالفرض، متمسكا بالأرض، مدافعا عن العرض، قائلا لمن حاول الاستهانة بالجبل: إننا قوم نتربى في خلواتنا المتواضعة على الطاعة والتقوى وعدم الذل إلا لله تعالى، ونربي أبناءنا على العزة والرجولة، ليكونوا أباة أحرارا، أحباء في ما بينهم، أشداء على المعتدين، ومتحديا ذلك الضابط الإسرائيلي المتعجرف، آنذاك، والمطالب بتسليم سلاح الموحدين الدروز، قائلا له: إننا لن نسلم سلاحنا ولا نسأل عن بيوتنا، بل نسأل عن كرامتنا، ثيابنا نرضى أن تكون مرقعة، أما كرامتنا فلا، فاهدموا البيوت إن استطعتم، ولن تستطيعوا، ولنا في الله كافل ومعين".
"إنه الشيخ اليعسوب، العطوف الرؤوف الذي ما تأخر عن نصرة محتاج أو إسداء رأي صواب أو اتخاذ موقف جريء يحفظ عزة الجبل وكرامة أبنائه ووحدتهم، حين كانت الطائفة تحتاج إلى المواقف في أيام الصعاب. فسار الجبل وسار الموحدون على وقع إرادته الخيرة وثقته الراسخة بالله وجرأته وإيمانه، وهو من كان العضد الأقوى للقيادة المسؤولة والمرجع الأول لإخوانه في مسلك التوحيد، والملاذ الآمن في النائبات، وصوت الحق المدوي عند كل مفترق ومحطة. اضاف: "ألم نقل يوما في هذا المعنى، وعلى منبر العرفان: "كأمة النحل هم، والزهر مطلبهم ما أضمروا الشر يوما لا ولا كادوا يستلهمون الصفا، لكن إذا ظلموا، الخيل تسرج والخيال معضاد صوت التسامح يدوي في وداعتهم، لكن حملانهم في الروع آساد الصبر شيمتهم، والنار تجعلهم أقوى وأنقى، كأن الموت ميلاد كالجمر إن يسكنوا، لكنه لهب حذار منهم، فإن الجمر وقاد هذا ما علمنا إياه شيخنا الإمام، وهو من كان القدوة في كل ما هو خير، وإلى شجاعته المعهودة تلك، فقد تعامل مع الطبيعة برقة ودقة، أحب أرضها وخيرها وطيرها، وتآلف معها منذ فتوته، فحول "رأس الذيب" في خلوته إلى حمل وديع، لم يغلق بابه خوفا من وحش ضار أو ردا لزائر قاصد، بل كان واثقا بربه، فاتحا مجلسه وقلبه لمن قصده، غير منعزل عن هموم مجتمعه، متصديا بحكمته ووعيه لقضايا الناس ومصير الوطن، فاحترمه الزعماء والرؤساء، وأضحت بعقلين في زمانه محجة تقصد ومعين حكمة يرتشف منه ماء الصدق والورع والشجاعة. قاعدته الأساس كانت: من لم يخف الله خاف من كل شيء ومن خاف الله خاف منه كل شيء." وهكذا كان شيخنا الورع المقدام لطيفا ووقورا في آن، صافيا، رقيقا، زاهدا عابدا، عالما، عاملا، حازما، ثائرا من أجل إعزاز كلمة الحق وزهق الباطل، مقتنعا بقوله تعالى: "إن الباطل كان زهوقا".
وتابع: "كان متورعا لا يتعدى الحق في كلامه، عفيفا خاشعا، دائم الابتهال والتأمل والبسملة والحمدلة والتلاوة، قانعا بما أعطي، مع إفراغ جهده في تحصيل ما هو أفضل، متكلا على الله وليس متواكلا، مجسدا القول بالفعل، غير طامع بحطام الدنيا ومواقع الوجاهة، معتمدا القاعدة القائلة: "لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن مسألة وكلت إليها وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها. لذلك عرف بأنه الشيخ القدوة العلم، والموجه الفيصل الحكم، صاحب الرأي الصواب والموقف المهاب، الثابت في الأحكام وفي القضايا، والراسخ في مواجهة الصعاب والبلايا، الفارس المقدام والسيد الهمام، الناسك المجاهد والصابر المكابد، العقلاني الواقعي والدقيق الألمعي، العارف بالله والعابد إياه، الراغب بأخراه والزاهد بدنياه، المقتدر المتواضع، المدرك قدر نفسه بعيدا عن الكبر والعجب وحب الرئاسة، والقائل تكرارا نقلا عن السيد المسيح (ع): "لا تسكن الحكمة إلا في النفوس الترابية، والكبر لا يكون في النفوس التي لا تسكن فيها الحكمة. واردف: "قلما جاد الزمان بمثله حكمة وتقوى وشجاعة ومهابة، حضوره كان كنزا روحيا للموحدين وغيابه كان فاجعة لأبناء التوحيد المسلمين المؤمنين، إذ هو المثل والمثال، الزاهد بالجاه والمال؛ زهده كان زهد الأحرار الذين خرجوا عن الدنيا قبل أن يخرجوا منها، فانسلخ من نفسه متحررا من شهواتها وأهوائها؛ زهد الأوفياء الأولياء الأتقياء، زهدا تفجرت منه العلوم والحكم والفضائل، كما قال السيد الأمير (ق): "فلاح لعلماء الآخرة أن الطريق مسدودة عن الوصول الى المعارف ومقامات القرب الا بالزهد والتقوى، فبصفاء التقوى وكمال الزهد يصير العبد راسخا في العلم".
وهو الصابر على ما يكره وعلى ما يحب، وصبره كان صبر الأولياء المقربين، صبرا في الله ولله ومع الله، حيث لا شكوى إلا إليه ولا تخلق إلا بأخلاقه تعالى، ألم يوح الله سبحانه وتعالى إلى النبي داود (ع) فقال له: "تخلق بأخلاقي، وإن من أخلاقي أنني أنا الصبور". واضاف: "ها نحن اليوم، وباستضافة كريمة من مؤسستنا التوحيدية الغالية؛ مؤسسة العرفان، وبما نحمل من ذكريات ومبادئ وتوصيات من تلك الرعاية الأبوية الحاضنة للمؤسسة وتلك العلاقة الروحية الراسخة التي كانت تجمع المرحوم الشيخ بالعرفان، نستذكر شيخنا العلم ونتحسر على غيابه، وهل يغيب عن عيوننا ذلك المشهد المهيب المؤثر، يوم تجللت بعقلين بالسواد وزحفت البلاد والعباد من كل حدب وصوب ومن كل بقعة معروفية، ومن مختلف المذاهب والمناطق، ويوم علت أصوات التأبين والصلاة في الأوطان والمغتربات، ويوم انهمرت دموع الحب والشوق ورسمت علامات التساؤل عما سيكون بعده، وعن حال الأمة والناس بعد رحيل شيخ العصر وشيخ الجزيرة، رجل الأمانة التوحيدية، والقائد اليعسوب الذي اطمأنت إلى قيادته خلية النحل، عين الأعيان وركن الأركان، والجواد الذي ما كبا به جواد، والسيد الذي ساد بتواضعه، وبزهده في المظاهر وفي ما هو فان وزائل، وتعلقه بالجواهر وبما هو باق وخالد، والأب العطوف الذي أبى أن يميل بعاطفته إلا إلى الحق". وتابع: لقد كان من طينة أولئك الأطهار الأبرار الذين أدركوا ما يجب أن يكون عليه الموحد المتحقق، وما يجب أن يطمح لبلوغه كل ذي عقل وحكمة من سعادة وطمأنينة وإنسانية، العارفين بأن الدين ليس هو الغاية، إنما هو وسيلة لتحقيق الغاية، وأن الغاية أبعد وأرفع من علم ومعرفة وطقس وتنظيم، عندما يسعى إليها الموحد سعيا، ويكدح إلى ربه كدحا فيلاقيه ويدرك الغاية إذاك. الغاية هي معرفة الله التي تبدأ بمعرفة النفس لا بسوى ذلك، غاية يبلغها الإنسان المتحقق بالله والعارف بالله، والمتطهر بذلك الحب وبتلك المعرفة؛ الحكمة ضالته وإدراك الحكمة غايته".
وقال: "لذلك، سعى شيخنا، إلى تطهير روحه من كل خبث ودنس وعيب ورجس، فكان شجاعا في توحيده، غير جبان، لا متردد ولا مراء ولا مساوم ولا متوان ولا متراجع، بل كان سيد نفسه، مسيطرا عليها، آخذا بزمامها، مالكا قيادها، متوجها بها إلى المقاصد الإنسانية العليا، التي هي مقاصد الدين، وغاية كل شهادة بالله ورسله، وغاية كل صلاة وكل صيام وكل زكاة وكل حج، مرتقيا إلى حيث الحقيقة، مسافرا في درجات التعاليم التوحيدية ومعارجها، بالصدق مع الذات أولا، ومع الله، وبحفظ أخوانه ومعاضدتهم وحمل هموم قومه وأهله والعمل من أجلهم، زاهدا بأمور الدنيا ولكن غير منعزل عن قضايا أهله، مندفعا للحفاظ على حقوقهم ووجودهم، غير آبه إلا بما يقتضيه الحق والواجب، تاركا كل عبادة لعدم فان من مال وجاه ولذة دنيوية، متبرئا من كل حالة طغيان وسطوة إبليسية، أكان في العقيدة أم في المسلك، في الفكر أم في النفس، من الداخل أو من الخارج، لينطلق حرا في رحاب التوحيد الحق، الذي به تعرف الأشياء وتتجوهر المعاني وتتحقق غاية الدين، وليعيش إذاك، كما عاش شيخنا دائما، راضيا مسلما، حيث الرضى هو الولاء الحقيقي لله من دون اعتراض وإكراه قلب، وحيث التسليم هو الجهاد الأكبر، نية وقولا وفعلا، وقد أتقن شيخنا هذا الجهاد في ميدانه الأرحب والأوجب قبل وبعد كل جهاد دنيوي أصغر، أكان هذا الجهاد من أجل العرض والفرض أم من أجل الدفاع عن الكرامة والأرض". المصدر :جنوبيات |