بأقلامهم >بأقلامهم
صخور المرفأ: "رحلة في ذاكرة حي رجال الأربعين"
جنوبيات
في تلك اللحظة الساحرة، وأنا أعبث بالرفوف وأنقب في زمن الذكريات، اجتمعت عيناي بتحفة فريدة، كانت عبارة عن تلاشي الزمن وتفتح نافذة لعالم من الكلمات المبعثرة والجمل المتناثرة. تلك الأوراق التي كانت تحمل بين طياتها الرموز السحرية لتوقيع والدي، كما لو أن الزمن نسج لي خيوطًا من ذكرياته، تعود بي إلى لحظات حية من ماضٍ لا يمحوه الزمن.
أمامي كان مكتب والدي، مكان لم يغيب ذكره عنه يومًا. الشمس قد غابت عن تلك اللحظة، ولكن لم يغب ظل والدي أبدًا عن هذا المكتب. كانت الأمور أكثر من مجرد أوراق وقلم، بل كانت لكل منها حكاية، كانت ترويها لي تلك الأجنحة الورقية، كأنها كانت تتحدث لي بصوته الخفي الذي يعبق بالحكمة والتجارب.
تلك الأوراق لم تكن مجرد كتابات عابرة متفرقة على أوراق، بل كانت لها روح خاصة، كأنها شاهدة على رحلة والدي، وكأنها تحمل بين طياتها مقتطفات من حياته الغنية بالتجارب والمغامرات. كانت تلك الأجزاء القصاصات المتفرقة كما لو أن والدي بنفسه يروي لي قصة حياته، ويعرض أمامي ألوانًا من خضم التجارب التي عاشها:
بعد الصياغة أشاركم هذا المقال:
في أحد الأيام الساطعة، تنساب أشعة الشمس الذهبية عبر نسيج الأمواج، ترسم لوحة خلابة على ساحل مدينة صيدا. في عرض البحر، كانت صخور المرفأ تستعرض جمالها الساحر فهي تستند على أحد أحيائها المعروف بحي رجال الأربعين، وقد اختلف في معناه، فمنهم من يقول إن المنطقة المتدرجة من القلعة البرية إلى شاطئ البحر، تقوم على أربعين درجة يسلكها الصاعدون والهابطون من منطقة رجال الأربعين وحرف الاسم من الدرجات الأربعين إلى رجال الأربعين.
وكان يقول بعض الناس إن في غمرة أمواج البحر اللامعة، كانت قصة فريق من الصيادين البواسل. الكلام عن رجال الأربعين، ذلك الفريق المكون من أربعين صيادًا صالحًا من مدينة صيدا، الذين اختاروا أن يكونوا روادًا في صيد الأسماك على صخور المرفأ. فقد جسدوا روح الشجاعة والتحدي، ولكن مياه البحر أخذتهم إليها بعيدًا، فاندمجوا مع عمقها وصاروا ذكرى ترنو إلى قلوب المحبين.
وبهذا الحدث البطولي ارتبطت المنطقة الشمالية من صيدا بتسمية فخرها، حي رجال الأربعين. هنا، تقابل الجنوب بالشمال، وتصبح المنطقة المرور الطبيعي إلى قلب مدينة صيدا الجنوبية. جمع في هذا الحي أهل الجنوب والطوائف اللبنانية المختلفة، واندمجوا في أوساط أهله وتشابكت العلاقات بينهم.
في ذلك الحي، الذي أطلَّت عيني والدي على جماله، عاشت الطائفة المارونية وجلست حول كنيستها كقلب ينبض بالوحدة والتسامح. واجتمعت الطائفة الشيعية حول مسجدها الذي يمتد عالياً في منطقة البوابة الفوقا. بينما اعتبرت الطائفة السنية الجامع العمري الكبير، الموجود على تلة الحي، مركزًا رئيسيًا لها ، حيث يشهد المناسبات الدينية وتتجمع الأنفس في ظلاله، وتبرز أهم زواياه، بينها زاوية القادرية المجاورة للجامع العمري الكبير.
هذا الحي الذي شهد الدكتور عبد الرحمن حجازي فيه أولى لحظات نشوئه في أوائل خمسينيات القرن الماضي، كان مسرحاً لأيام طفولته البريئة، حيث كان يلهو ويلتحق بألعاب أبناء الحي والقاطنين الجدد القادمين إلى مدينة صيدا التي كانت أزقتها تعج بالحياة، وكان السواح يشاركون بفعالياتها المتنوعة.
في ذاكرتي، رحم الله والدي وأسكنه فسيح جناته. العقل يشتاق إليك بشدة، يتوق لحكمتك ونورك الدائم الذي كان يضيء دروب حياتي. والقلب، يحن إلى لحظة لقائك مرة أخرى، يترقب اللحظة التي نلتقي فيها في جنة الخلد، حيث يعيش الأمل في لقاء يمحو آثار الفراق. رحمك الله يا والدي العزيز، وجعل مثواك الجنة الواسعة.