بأقلامهم >بأقلامهم
رحيل كريم مروة آخر الشيوعيين والمفكرين الكبار
جنوبيات
برحيل المفكر كريم مروة (1930- 2024)، يغيب اليوم آخر الشيوعيّين الكبار والمفكرين، ممّن أغنوا المكتبات الثقافيّة والفكريّة والفنّيّة بعشرات الكتب والبحوث والمؤلّفات والمقالات والحوارات، وعايش الحزب الشيوعيّ اللبنانيّ في زمانه الذهبي وعاصر مؤسّسيه ومفكّريه وأمنائه ومحازبيه، وصنع مجد الصحافة فيه، من الأخبار إلى النداء فالطريق، قبل أن يستقيل من مهامه الحزبية في العام 1999، على أبواب السبعين من عمره، ليتفرغ للكتابة والبحث والتأليف.
يرحل كريم مروة بعد أشهر قليلة على رحيل أعزّ أصدقائه الأديب حبيب صادق (1931- 2023)، وقد كانا من طينة يسارية واحدة، لكن كريم مروة كان مشاكسًا بين الشيوعيّة واليساريّة، من دون أن يكون عدائيًّا أو منطويًا أو متقوقعًا، وواكب المراحل الصعبة من عمر الحزب الذي شهد فورة تصاعديّة ومسؤوليّات وطنيّة وقومية وأزمات وانقسامات، بعد مرحلة من الاغتيالات طالت أصدقاءه من كبار مفكّري الحزب، من حسين مروة إلى حسن حمدان (مهدي عامل)، سهيل طويلة وخليل نعّوس، إلى العديد العديد، وانتهاءً بجورج حاوي، وقد تعرض هو لأكثر من محاولة اغتيال.
تسنّى لي أن أجري معه حوارًا طويلًا حول البدايات بين حاريص وصور، ثمّ العراق فبيروت فالحزب الشيوعيّ اللبنانيّ، بين المطالعة والكتابة والصحافة، وتمثيل الحزب أمميًّا والنقاشات فالأزمات، والتفرّغ للكتابة والبحث والتأليف، وسوف أختار حيّزاً من الحوار حول نشأة كريم مروة وتطوّر حياته الحزبيّة والثقافيّة والفكريّة.
الولادة والنشأة وحفظ القرآن
يقول: الولادة في حاريص، وعلى نحو ما كتب والدي على نسخة من القرآن، طبعة قديمة منه كان يكتب عليها مواليد الأبناء كلّهم، بالتقويم بالهجري، “الله يرحمو حسين مروّة قرّشلنا إيّاها عالميلادي، فكانت يوم الخميس في 8 آذار العام 1930 (لذلك في 8 آذار من العام المقبل يصبح العمر 80 سنة). أُجري الحوار في العام 2010
أنا أتذكّر من طفولتي الصغيرة، أوّلًا كنت أقرأ عند شيخ القرية، قرأت القرآن وحفظت مجموعة من صوره وختمته في وقت مبكر، كان عمري ثماني سنوات. في سن الطفولة كان هناك أشياء كثيرة سردتها في كتاب السيرة الذاتية “كريم مروة يتذكّر” فيه تفاصيل كثيرة عن سيرتي لن أدخل فيها، ما أتذكره عن تقاليد الضيعة، من “دشّر قمرنا يا حوت” إلى المعارك في الضيعة بين العائلات، ثم مصالحتها مع بعضها البعض؛ إلى قصّة التفتيش عن الهلال في أوّل رمضان وفي آخره؛ التي كنا نشارك فيها. كان أهلنا يكلفوننا أن نذهب لنرعى الماعز والغنم، والخيل كذلك، إذ مرّت فترة كان عندنا خيل؛ وكيف كنّا نربّي الجدي أو الحمل، ونظّن أنّنا نربّيه، وفي الأخر يأتون ويذبحونه وتعمل لنا قصة كبيرة.
إضافة إلى السهرات التي كانت تعدّ في الأعراس وكانت طريفة جدًّا، وكان يشارك فيها رجال ونساء على الدبكة، حتى النساء يقفن على الحاشية ولا يردّن على كلّ ما كان يقال من رجال الدين، يعني أنّه لم يكن عندهم قرار.
وأتذكّر أحد المعلّمين عندما فتحت المدرسة سنة 1939 وكان عمري تسع سنوات، فتحتها الجمعيّة الخيريّة العامليّة، برئاسة رشيد بيضون، وكان عضوًا فيها كامل مروة، وكان المدير جعفر شرف الدين، وإلى جانب الدروس وآخره، أتذكّر وفي المناسبة كنت الأوّل، دائمًا امتيازات استثنائيّة، وظليت هكذا إلى فترة طويلة حتى دخلت في السياسة و”تخربطت” كلّ أموري وعطّلت كلّ مواهبي التي كانت علميّة.
كنت مميّزًا بالرياضيّات والجبر والهندسة، والكيمياء والفيزياء؛ وأتذكّر في أحد الأعوام أتيت الأوّل وبيني وبين الثاني 60 علامة. إلى حدّ أنّ العائلة في المرحلة المتوسّطة برئاسة كامل مروة فكّرت في إرسالي إلى أمريكا، في الوقت الذي كان والدي يفكّر في إرسالي إلى النجف، وراح الأمران سويّة. ما رحت على النجف ولم أذهب إلى أمريكا.
إلى صور فالعراق
أتذكّر في ذلك الحين، وكنموذج للحرّيّة عندنا في الضيعة، أنّ أحد المعلّمين عشق ابنتيّ عمّ، والد إحداهنّ رجل الدين والأخر متديّن، وعلمت الضيعة كلّها في أنّه عاشق التنتين (الاثنتين)، فطلعت أغنية مطلعها “يا سلام سلّم، يا سلام سلّم، بيدا ومواهب عشقوا المعلمّ”؛ هو من النبطية من آل بدر الدين.
أشياء كثيرة من طفولتي كانت في حاريص. ثم انتقلنا بعدها من حاريص إلى صور، باع والدي كلّ شيء ورحلنا إلى صور لأنّ المدرسة لم تعد تكفينا في حاريص، ووالدي يريد منّا تكبير تعليمنا؛ الضائقة الاقتصاديّة جعلتني لوحدي أكمل الدراسة، تابعت قليلًا حتّى قبل البروفيه ثمّ انتقلت من المدرسة الجعفريّة إلى ثانوية حوض الولاية في بيروت 1942- 1943؛ ولأنّنا لم نقدر على المتابعة، عدنا ووالدي الشيخ احمد سجّلني في مدرسة الكاثوليك، بقيت أشهر قليلة إلى أن عادت وفتحت المدرسة الجعفريّة، صفًّا أوّل ثمّ حتّى البروفيه، بعدها أرسلني والدي إلى العراق.
العراق والميول الشيوعيّة
كان هذا سنة 1947، أرسلني والدي حتّى أكمل دراستي في العراق عند ابن عمه حسين مروّة، الذي كان قد تخلّى عن العمامة وأخذ يدرّس في المدارس هناك؛ دخلت إلى المدرسة الجعفريّة في العراق، ثمّ إلى المدرسة الإعداديّة المركزيّة حتّى أكمل الدراسة. ومن بعدها إلى الجامعة، فحصلت أحداث كبيرة، والأنتفاضة، والأنتفاضة على الأنتفاضة، والإعدامات، وسحبوا جنسيّة حسين مروّة فرجعنا إلى بيروت سنة 1949.
طبعًا أنا في العراق سنة 1948 بعد “الوثبة” صرت شيوعيًّا، أنا لوحدي؛ لأنّني كنت قوميًّا عربيًّا وعندي أحلام كثيرة حول فلسطين ولبنان وحول الوحدة العربيّة، وصارت النكبة، فيئست من الحكّام العرب، ويئست من الفكر الذي كان يعتبر نفسه بديلًا، فكر غيبيّ بكثرة ومن دون أي مقومات، وصودف بعد انتصار الاتحاد السوفييتي، وصار عندنا منظومة اشتراكيّة عالميّة، تبشّر كلها بسعادة البشر وغيره.
الفكر أغراني كثيرًا وصرت أقرأ، وفوجئ حسين مروة كيف صرت أنا شيوعيًّا، هو كان ديموقراطيًّا وقريبًا من اليسار؛ إنّما أنا صرت شيوعيًّا وانتسبت إلى الحزب الشيوعيّ العراقيّ. شهران أو ثلاثة بعدها قال لي (حسين مروّة): شو بدّك بهالشغلة كونك لبنانيّ، لا صراعات ولا خلية أو عمل سرّي أو غيره، بقيت شهرين أو ثلاثة ثم تركت. هناك عملت شيوعي سنة 1948؛ في آخر كانون الثاني.
أنا من الأشياء التي أعتز بها، أنّه في “الوثبة” في العراق ضدّ معاهدة “بورت سموث” (ميناء في بريطانيا)، شاركت في أوّل مظاهرة؛ في دار المعظم، أمام معهد الملكة عالية قرب المكتبة الوطنيّة، بعدها حصل إطلاق رصاص وهربت، كنت أنا ونزار مروّة، ابن حسين مروّة. صارت الأنتفاضة وسقطت الحكومة وتألّفت حكومة ثانية وإلخ…
الأحداث كلّها، وتقسيم فلسطين والخيانات، كلّها جعلتني أتحوّل شيوعيًّا؛ عدت إلى لبنان وأعدت الدراسة من جديد، الثانويّة كلّها. في الجعفرية أنهيت القسم الأوّل وعيّنت معلّمًا في شمسطار قرب بعلبك لمدة سنتين، ودرست للبكالوريا القسم الثاني، على حالي، ونجحت سنة 1952، وتقدّمت بكنكور (اختبار) إلى الجامعة اللبنانية ودخلت إلى دار المعلمين، وبدأت.
الانتساب إلى الحزب
في الجامعة اللبنانيّة، دخلت إلى إلى قسم الأدب، وبقيت سنة، في هذه السنة كنت شيوعيًّا لكنّني لم أدخل إلى الحزب؛ لسبب طريف جدًّا، وهذا يجب أن يسجّل؛ يومها فوجئت أنا بقصّة فرج الله الحلو، وهو رئيس الحزب الشيوعي اللبناني وأحد الوجوه التاريخيّة في الحزب، لأنّه طلب عدم الموافقة على التقسيم، لأنّ سياستنا في كتابات الحزب وبيانات الحزب كلّها ضدّ التقسيم، وعندما أُقرّ التقسيم ووافق عليه الأتحاد السوفييتي كان علينا أن نعيد التقسيم ونتخلّى عن كلّ تاريخنا.
“طولوا بالكم علينا”، لا نوافق على التقسيم من دون أن ناخذ منه موقفًا سلبيًّا، فاتّخذوا قرارًا بفصله من قيادة الحزب وتحويله إلى عضو عاديّ في الحزب، كلّ ذلك لأنّه قال هذه الكلمة؛ أنا زعلت (غضبت) لأنّهم فرضوا عليه نقدًا ذاتيًّا قرأته أنا وانهزّيت (تأثرت) لأنّه نقد ذاتي غير سليم وغير صحيح وفيه مبالغات كثيرة، ويبدو أنّه أتى تحت الضغط. وكان قراري أنّ الحزب الشيوعي الذي لا يحمل فرج الله الحلو، أنا لا أدخل إليه، ليس من أجل ذلك دخلت إلى الشيوعيّة، بل لأنّها فيها حرّيّة وفيها فكر وفيها علم واحترام للآخر وكذا وكذا؛ فرفضت الدخول.
إضافة إلى ذلك كنت على علاقة وطيدة برئيف خوري، خوري طردوه كذلك هو وهاشم الأمين وقدري قلعجي وإملي فارس إبراهيم وموريس كامل وهؤلاء جميعهم صرت صحبة (على صداقة) معهم، وكنت أجتمع معهم فقررت ألّا أدخل. وعندما دخلت إلى الجامعة اللبنانية، صارت هناك انتخابات للرابطة، ترشّحت إليها كشيوعيّ مُعلن وفزت بنيابة الرئيس؛ كان الرئيس فؤاد الترك، كان صديقي ويميل إلى الكتائب ومخايل الضاهر يميل إلى شمعون وكان جورج طعمة اشتراكي ونايف معلوف وكثر، برغم ما بيننا من اختلافات في المواقف السياسية لأنّه كان عندنا موقف أكاديمي، فلمّا انتخبت نائبًا للرئيس باسم الشيوعيّين جاء لعندي نديم عبد الصمد وقال لي: لم يعد جائزًا أن تبقى خارج الحزب.
قلت له: شو فارقة معكم أنتم، أنا شيوعي، هل من الضرورة أن أكون عضوًا في الحزب؟ قال: لا، هذا غير مقبول؛ قلت له: عندي شرط؛ أنا لا أدخل إلى حزب لا يوجد فيه فرج الله الحلو ورئيف خوري؛ قال: فرج الله الحلو سوف تفاجأ بأنّه سيعود إلى مواقعه؛ ورئيف خوري قصّته على طريق الحل.
رحت وسألت رئيف، قال: ادخل إلى الحزب، فالخلاف والأختلاف وتضامنك معي، وهو صحيح وأنا شاكر لك هذا، لكن أنت شاب في مقتبل العمر، ماذا ستشتغل إذا كنت شيوعيًّا، لوحدك؟ ادخل إلى الحزب واعمل وأصلح في الداخل. رئيف نصحني وهو مختلف مع الحزب، فدخلت إلى الحزب، تقدّمت بطلب، فقبلوا الطلب فورًا وعيّنوني أحد المسؤولين الأساسيّين في المنظمة الطلّابية للحزب.
مدرسة الحزب أهمّ من أيّ جامعة
قبل أن تنتهي السنة الدراسيّة في الجامعة، قالوا لي: ستذهب لتحضر مؤتمرًا عالميًّا لاتحاد الشباب الديموقراطيّ العالمي. وترأّست وفدًا طريفًا جدًّا، كنت أنا أصغر واحد فيه، كان المحامي نخلة مطران ومصطفى بيضون القاضي الكبير ومجموعة كبيرة وكلهم أكبر مني، وكان وفدًا لبنانيًّا سوريًّا وقالوا: انت رئيس الوفد. ذهبنا إلى إيطاليا ورأينا مجموعة من الإرساليّات الأشتراكيّة والشيوعيّة.
وصلنا إلى هناك، وحضرنا المؤتمر وانتخبوني عضو لجنة تنفيذيّة في المؤتمر وفي الهيئة القياديّة اليوميّة للاتّحاد؛ وقالوا لي: العودة إلى بيروت ممنوعة وستسافر إلى بودابست (عاصمة المجر)؛ اسمعوا اقشعوا، يا عمّي بدّي كمّل دراستي، فقالوا لي يخبرك (يبلغك) الرفيق خالد بكداش أنّ مدرسة الحزب ومدرسة الحياة أهمّ من أيّ جامعة، فبقيت 4 سنوات.
كنت مسؤولًا عن آسيا وأفريقيا في هذه المنظّمة العالمية؛ أنا من بدايتي قارئ نهم، اقرأ كلّ شيء بالعربي والفرنسيّ، أدبًا وفكرًا وسياسة وتاريخًا إلخ، ففي الفترة التي دخلت فيها إلى الاتّحاد، أخذتْ قليلًا من وقتي، لكنّني بقيت أضع هامشًا أنّه يجب ألّا أتخلّى عنه هو القراءة، قلّت (تراجعت) قراءاتي وتوجّهت بقسم أساسيّ منها نحو خدمة شغلي الأمميّ. فصارت ثقافتي العالميّة أهمّ بكثير من ثقافتي الخاصّة، لكن من دون أن أتخلّى عن اهتماماتي ببلدي، لأنني كنت مسؤولًا عن منظمة عالميّة وبشكل خاص عن الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، عن القضايا التي كانت مشتعلة فيها.
وصارت قضايا ومؤتمرات كثيرة وصراعات، وابلغتهم أنّه مع اهتمامي بالقضايا الأمميّة، فإنّ القضيّة الوطنيّة والقوميّة هي خطّ أحمر، سأعمل معركة ولو اضطررت لأن أترك؛ إنّها قصّة كانت كثيرًا مهمّة، والتقيت بكثير من القيادات، حتّى اليهوديّة، وهم أتوا لأنّهم كانوا أعضاء في الاتّحاد، من شيوعيّين وغير شيوعيّين، عناصر “باباي” و”مابام” ممّن سمّوا أنفسهم اشتراكيّين؛ وياما دخلت في نقاشات حادّة معهم؛ باعتبار أنّ “إسرائيل” كانت تحت مسؤوليّتي، كقسم من الشرق الأوسط. وقالوا لي: غصبًا عنّك ستلتقي بهم، وإلّا فلتغادر. فقلت لا مشكلة عندي، يمكن أن ألتقي بخصمي وأتقاتل معه، وياما حصلت معارك.
الصحافة والنداء
عدت إلى لبنان سنة 1957 وعدت إلى الحزب، وما أن وصلت حتّى أرسل بطلبي خالد بكداش وفرج الله الحلو حتّى أذهب إلى سوريّا، كي أشترك في تحرير جريدة “النور” التي كان يصدرها الحزب باسم الحزب الشيوعيّ السوريّ اللبنانيّ؛ وكان فرج الله هو المسؤول عنها، واهتمّ بي، وأنا أعرفه منذ العام 1954 عندما عاد إلى موقعه القياديّ والتقيت به، والتقيت به في موسكو كذلك؛ في موسكو كان سنة 1957.
اشتغلت تحت قيادته ثلاثة أشهر وجاءت الوحدة، فقال: “فلّ هيئتها مش مطوّلة جريدة النور”. عدت إلى لبنان ودخلت إلى كلّيّة الحقوق، من أجل الحقوق، وصارت الثورة سنة 1958، فالتحقت بالمقاومة وكنت مسؤولًا عن مستودع السلاح وعن الحرس في أحد مراكز المقاومة هنا في قصقص، في مدرسة عائشة أمّ المؤمنين؛ بقينا حتّى انتهت الحرب، وكانت قد تأسّست جريدة “النداء” سنة 1959 كنت لم أزل حائرًا، إذ لم أجد محلًّا (مكانًا) لي، لمعيشتي، فاقترح عليّ نقولا شاوي قائلًا: تتفرّغ في الحزب؛ وتكون من أركان هيئة تحرير النداء. فأنا كنت من مؤسّسي جريدة النداء، وكانت عندي زاوية عربيّة عالميّة في الصفحة الرابعة، لقد أخذوا بعين الأعتبار تجربتي.
ثم بعد فترة أصبحت رئيس التحرير، إلى أن أتى واحد بعد مدّة من الزمن واستلم عنّي، صرت أنا السكرتير الثاني في منظّمة بيروت الكبرى التي تمتدّ من ضبيّه إلى الناعمة، إلى وادي شحرور.
كان السكرتير الأوّل عضو مكتب سياسيّ وأنا كنت معه، بعد فترة ثقلت علينا المسؤوليّات وذاك (السكرتير الأول) لم يكن يقدر على المشي وأن كنت مثل “الكلب السلوقي”، أتنقل من مكان إلى مكان، فقلت لهم لم يعد باستطاعتنا هكذا، فأتينا بمجموعة من المثقّفين: نخلة مطران وأدوار عون (محاميان) وسهيل يمّوت (مهندس) كانيك عطريان أرمنيّ أديب وشاعر، وجورج حاوي وكان معنا صوايا صوايا وأغباش أغباشيان الذي كان عضو مكتب سياسي وظلّ هو مسؤولًا. أولئك بقيوا فلاسفة، ذابو بالتحليلات الفكريّة، وأنا وجورج حاوي نقوم الشغل نحن الاثنان.
تمثيل أمميّ ومعركة حول فلسطين
رحت في شباط سنة 1962 إلى فيينّا (عاصمة النمسا)، إلى مجلس السلم العالميّ، وانتخبتُ عضوًا في مجلس السلم العالميّ وصرت مسؤولًا عن آسيا وأفريقيا بشكل عام، وخصوصًا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. فتكرّرت التجربة نفسها، وفي القضايا نضجتُ أكثر، ومجلس السلم العالمي مؤسّسة ضخمة جدًّا فيها كبار الشخصيّات ورؤساء ووزراء ومثقّفون كبار إلخ، يعني كانت مناسبة هائلة بالنسبة إليّ.
تعرّفت على العالم كلّه، وسافرت كثيرًا، وشاركت في مؤتمرات، وكنت مسؤولًا في مؤتمرات، وخضنا معارك طويلة عريضة، وإحدى المعارك في سنة 1963؛ وهذه المعركة أعتزّ بها كثيرًا، معركة حول فلسطين، واتُّخذ قرارٌ اشتغلت أنا على صياغته، في إدانة السياسة الإسرائيليّة، ويبدو أنّ اللهجة كانت قويّة قليلًا، الشيوعيّون الأممّيون قالوا: نحن معك، لكن ليس بهذه الحدّة، وكان القرار قد أقرّ؛ هذا كان في وارسو (عاصمة بولندا)، عدنا إلى فيينا وإذ بماير فنلر، الذي صار الأمين العام للحزب الشيوعيّ في ما بعد، صديقي جدًّا وشيوعيّ مناضل، واتّخذ في العام 1967 موقفًا على كثير من الأهميّة، حادًّا تجاه الحكومة وأتى أحد الأرهابيّين وطعنه بسكيّن كاد أن يقتله، فقال لي: أنا يهوديّ، ومع دولة فلسطينيّة، ومع حقّ الشعب الفلسطينيّ، لكن أن تطالب في إزالة إسرائيل، هذا لا يمكنني أن أكون معك. هذا قرار تقسيم، قرار دوليّ.
أخذنا قرارًا تاريخيًّا يتعلّق بشعوب أفريقيا، المستعمرات البرتغاليّة، وأنا ناضلت معهم، ومن كانوا في المؤتمر، صاروا جميعهم زعماء في بلادهم، في أنغولا وموزنبيق وفي غينيا بستاو وبقيت إلى فترة طويلة على صلة معهم.
أزمة الحزب
أنا زرت 68 بلدًا، وبعد ثلاث سنوات من وجودي في فيينّا، في منظّمة السلم العالميّ، كان الحزب الشيوعيّ اللبناني قد انفصل عن الحزب الشيوعيّ السوريّ، أرسل بطلبي نقولا شاوي حتّى أعود، رجعت وعيّنوني فورًا عضو مكتب سياسيّ، قلت: بكير عليّ! قال: مش بكّير، أنت صار عندك تجربة غنيّة جدًّا. كان عمري قد أصبح 34 سنة.
ثمّ في السنة التي تلتها صرت عضو مكتب سياسي وسكرتيرًا، أنا وجورج حاوي، جورج دخل كمرشّح ثم صرت أنا وإيّاه، العام 1966؛ صار هناك تجديد في قيادة الحزب، وصرت أنا وجورج حاوي عضوي مكتب سياسيّ وسكرتيرين؛ يعني صرنا خمسة من القيادة الأساسيّة في الحزب. في هذه الفترة انفجرت أزمة الحزب في العام 1966 وكنت أنا وجورج من فجّرناها.
الأدب والثقافة والفكر
منذ طفولتي، من بداية المرحلة المتوسّطة، وأنا أقرأ الأدب، الأدب العربيّ؛ وأقرأ في المجلّات التي كانت تصدر، المصريّة بشكل خاص، ثمّ اللبنانيّة. المصريّة: “الهلال” و”الأسبوعيّة” و”الكاتب المصريّ” و”الرسالة” و”الثقافة”، ثمّ لاحقًا مجلّة “أوّل الطريق” و”الأديب” و”المكشوف” وكلّ هذه وسائل معرفة، وكانت مجلة “كلّ شيء” كنت أكتب فيها سنة 1947 بزاوية اسمها “في الكوخ” منذ شبابي الأوّل وأنا قارئ نهم، وتأثّرت كثيرًا بجبران خليل جبران، ميخائيل نعيمة وطه حسين، ثم لاحقًا سلام موسى الاشتراكيّ، تأثرت فيه كثيرًا عندما أصبحت شيوعيًّا وقرأت له كلّ ما كتبه.
هذا التكوين الأولي استمرّ يحكم شخصيّتي حتّى هذه اللحظة؛ في فترة اهتماماتي الكثيرة في السياسة عندما تحمّلت مسؤوليّات أساسيّة في الحزب ضعف اهتمامي الثقافيّ، غير أنّه لم يتوقّف والكلّ يعرف أنّني أنا برغم كلّ الظروف، كنت ممّن يشارك ويحضر دائمًا السينما وحفلات الموسيقى والحفلات الثقافيّة على اختلافها وندوات شعر ومسارح إلخ.. لم أتوقّف أبدًا.
استمرّيت بالكتابة بشكل متقطّع إلى أن بدأ بشكل منظّم في فترة الخمسينيّات 1959 عندما كنت في الجريدة (النداء) أوّل كتاب لي كان سنة 1974؛ كتيّب اسمه: “ماذا بعد حرب تشرين؟” والكتاب الأساسي الذي أعتزّ به كثيرًا لأنّه كتاب فكريّ مهمّ جدًّا وهو بداية تصوّر لمرحلة ما بعد عبد الناصر بعد الهزيمة، “**كيف نواجه الأزمة في حركة التحرر الوطني العربية؟”** وبدأت الكتابات، أطنان من المحاضرات واللقاءات، عندي أرشيف فظيع، مكتوب ومسموع ومرأيّ.
ودخلت وأنا في موقع نائب الأمين العام للحزب، وأصرّيت على أن استعيد استقلالية خاصّة بي حتّى أستطيع التعبير عن أفكاري، وهذه بدأت في أوائل الثمانينيّات. سنة 1984 في عزّ دين الحرب، بدأت أطرح أفكارًا حول الماركسيّة العربيّة وكتبت بحثًا في مجلّة الطريق معتبرًا أنّ هناك أزمة في الماركسيّة في البلدان العربيّة، وحدّدت عناصرها حتّى أقول إنّه آن الأوان لكي نحدث تغييرًا، بأفكارنا الماركسيّة، ولا يجوز أن نظلّ مرتبطين بنصوص عمرها 150 سنة ولا أن نظل محكومين بأفكار لا تتغيّر مع تغيّر الظروف والأحوال
ثم أصدرت كتابًا سنة 1985 عن المقاومة أو لكتّاب عن المقاومة، لكنّ الكتاب المهمّ الجديد الذي أتى بمثابة تتمّة لكتاب السبعينات، سنة 1990 وهو كتاب حوارات طرحت فيه أفكارًا جديدة كاملة حول مفهومي للاشتراكية، إلى الثورة، العلاقة مع الدين، مع التراث، مع الديموقراطية وإلخ..
بعد انهيار الاتّحاد السوفييتي صدرت لي عدة كتب. كتاب النقد لم يُوافق عليه وصار نقد كثير حوله؛ وأنا استمرّت أفكاري، وكان معي جورج حاوي وجورج بطل ومجموعة من التفكير نفسه.