بأقلامهم >بأقلامهم
جامع الشهداء في صيدا: مقصد الروح ورمز الصمود
جنوبيات
تحت ظلال مئذنة جامع الشهداء العالية في أحضان صيدا، حيث تتشابك أنفاس الروح مع هبات السكينة التي تعجز الكلمات عن وصفها، كنا نقف متحفزين لأداء صلاتنا، مختارين هذا الموقع الفريد برغم قرب جامع الروضة ومسجد القدس من مسكننا بحي الست نفيسة. شيء عميق وغامض يستوطن قلبي، يتجدد شوقه مع كل عودة من الغربة إلى عتبة أهلي في صيدا، حيث ألح في طلبي لوالدي، الدكتور عبد الرحمن حجازي - جعل الله مثواه الجنة -، بالتوجه إلى هذا الرمز الروحي العميق، الحامل بين ثناياه حكايات وعلى أعتابه أرواح شهداء من صيدا.
بعد صلاة مفعمة بالبركات، ومع تلاشي أصداء الأذان وهدوء تموج القلوب، طرحت على والدي الغالي تساؤلًا عن جامع الشهداء والساحة الأثرية المحاذية له. فأخذ ينسج من الذكريات حكاية ملحمية، وفي صوته تردد صدى الأحداث الجليلة، مرويًا سيرة صيدا التي كانت على مر العصور مسرحًا للتحولات العظمى، قائلًا: "لقد مرت صيدا بأيام دامية، أعقبت هجومًا على السفير الإسرائيلي في لندن، الذي أشعل فتيل أزمة ألهبت سماء لبنان."
في لحظة، تحولت صيدا إلى ميدان حرب، شهد قصفًا إسرائيليًا هائلًا بدعوى الدفاع عن النفس. وفي السادس من يونيو لعام 1982، انطلق الغزو الإسرائيلي للبنان، تاركًا وراءه خرابًا هائلًا وموجة من الهلع غمرت المدينة.
الأرواح الطاهرة قُدمت قرابين تحت أنقاض المنازل والمباني، فقدت صيدا جزءًا من أبنائها وبناتها، دون أن تجد لهم بديلاً. لم يُستثن من الخراب أي من المعالم الحيوية بالمدينة، حيث شهدت بناية جاد، وتكميلية القناية، وملجأ سهل الصباغ، مأساة عارمة، مختلطة فيها دماء الفلسطينيين واللبنانيين في نضال مرير من أجل البقاء.
المدينة كانت تصارع تحت جبروت الاحتلال، وصور الشهداء التي علت عالياً كانت تشهد على هول العدوان. وأخيرًا، ضمت ساحة الشهداء أرواح مئات الشهداء، في تكريم لذكرى بطولاتهم وتضحياتهم. وهذا الجامع، الذي أرسى قواعده الحاج يوسف البساط كتجسيد لروح العطاء، اختار له أرضًا ذات قدر لا يُقدر بثمن ليكون منزلاً لبيت من بيوت الله، مسميًا إياه جامع الشهداء.
وبرغم الآلام، صيدا بروحها الصامدة لم تخضع، فبفضل عزيمة أبنائها ونضالهم، استرجعت المدينة مجدها وحريتها، تاركة وراءها إرثًا من البسالة يتجدد مع كل أذان يرفع في جامع الشهداء.
في آخر لقاء بيني وبين آبي، وهو يرقد على فراش المرض، كانت أمنيته الأخيرة تترنح بين أضلوعي كشمعة تحترق ببطء. كان يتمنى أن نمشي معًا في دروب صيدا، ذلك البلد الذي أحبه بكل مشاعر الانتماء والولاء، إلى جامع الشهداء، حيث يمتزج الضوء بالظلام، وحيث تتلاقى أرواح الشهداء في أعلى مراتب السماء.
وكانت هذه الأمنية، هذا النداء الأخير، هو الشغف الأكبر الذي أراده مني، لنتسامر ونتبادل الحديث على طول الطريق، ولكن المرض حال دون تحقيق هذا الحلم الأخير.
رحم الله أرواح الشهداء في صيدا، تلك الأرواح التي ضحت من أجل تحقيق العدالة والحرية، ورحم والدي الحبيب، الذي غادر هذه الحياة وهو يحمل في قلبه وطنًا وأماني لم يرفع عنها الغبار.
صيدا، تلك المدينة لها رب يحميها
في أمان الله...