بأقلامهم >بأقلامهم
"اليمنيون" ثوار بلا قيود.. ومقاومون بلا حدود..
"اليمنيون" ثوار بلا قيود.. ومقاومون بلا حدود.. ‎الاثنين 18 03 2024 10:50 العميد محمد الحسيني
"اليمنيون" ثوار بلا قيود.. ومقاومون بلا حدود..

جنوبيات

وصلت مجموعة من المقاومين إلى بستان الليمون، بالقرب من منزل رجل طاعن في السن، خرج إليهم يمشي على مهل وخاطَبَهم بودِه المُعتاد ومن باب النُصح لا أكثر: "ارحلوا يا أبنائي وارجعوا إلى بلدكم، فقد سقطت مدينة "النبطية" وأصبح العدو على مشارف قريتنا، ارحلوا تحت جُنح الظلام هو خير ٌلكم، فقد تراجعت معظم فصائل المقاومة…"، وأتاه الرد بارداً كحد السيف: "صمت…فابتسامة"…
مع بزوغ الفجر سُمع رشقات نارية أعقبها دوي إنفجارات… وعند الظهيرة شوهدت جثثهم على الأرض، لقد ارتقوا شهداء بعد أن تصدوا ببسالة لرتلٍ من دبابات الميركافا… إنّهم مقاومون من اليمن، لقد هجروا عائلاتهم وتركوا أرضهم وأبَوْا إلا الشهادة في سبيل فلسطين … حدث هذا على مفترق بلدتيّ النميرية - زفتا من محافظة النبطية، وذلك في أوائل شهر يونيو 1982 ابّان الإجتياح الصهيوني لجنوب لبنان، حين كان خاضعاً لسيطرة "القوات المشتركة" وهي تسمية أُطلقت على الائتلاف العسكري للحركة الوطنية اللبنانية وفصائل المقاومة الفلسطينية كافة.

منذ الشرارة الأولى لانطلاق العمل الفدائي تطوع اليمنيون بأعداد كبيرة لصالح الفصائل الفلسطينية للقتال ضد العدو الصهيوني في مختلف الساحات، وخلال اجتياح جيش الاحتلال الإسرائيلي للبنان في العام 1982 رفض الكثير منهم الانسحاب أو الاستسلام، ليتصدوا ببأسٍ وقوةٍ شديدين لعمليات الغزو. وقبلها في صيف العام 1981 كانوا ممن كشفوا وواجهوا بشراسة الانزال الثلاثي الذي نفذه العدو الصهيوني على مراكز "القوات المشتركة" في: كفرتبنيت، الجرمق وتلال علي الطاهر في محيط مدينة "النبطية" جنوبي لبنان.

هذا دأبهم منذ ما قبل النكبة، فمنهم من حمل السلاح ومنهم من استعان بقلمه لنصرة القضية الفلسطينية، ففي "عدن" من العام 1947 تحولت إحدى أُولى المظاهرات الشعبية ضد الاستعمار البريطاني، إلى اضراب لمدة ثلاثة أيام احتجاجاً على الدعم البريطاني للصهيونية في فلسطين. وفي نوفمبر من العام نفسه خرج مندوب اليمن (صنعاء) من قاعة الجمعية العامة للأمم المتحدة إحتجاجاً على "القرار 181" الذي يقضي بتقسيم فلسطين. وبعد تحرير "عدن" من الاحتلال البريطاني في العام 1967، دعمت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية (عدن) الحركات الفلسطينية طوال 27 عاماً من وجودها. وبحلول العام 1971 وضمن امكاناتها المحدودة، سمحت "عدن" للجبهة الشعبية (جورج حبش) بمهاجمة سفينة صهيونية في "باب المندب"، وبعد ذلك بعامين ومن منطلق العمل على وحدة الساحات، أغلق اليمنيون مضيق "باب المندب" أمام الملاحة الصهيونية مع بدء حرب أكتوبر 1973. وعندما اعترف الرئيس المصري أنور السادات بالكيان الصهيوني ووقع اتفاقية "كامب ديفيد" في العام 1979، ردت "عدن" بطرد المعلمين المصريين من البلاد، باستثناء المنتمين إلى المعارضة اليسارية المصرية. وعلى الرغم من الموقف السياسي للجمهورية العربية اليمنية (صنعاء) الداعم للغرب في حينه، فقد اتخذت أيضاً موقفاً داعماً بشكل منهجي للقضية الفلسطينية... إلى أن حصل الغزو الصهيوني للبنان في صيف عام 1982، حيث جاء بمثابة فرصة للقادة في كل من "عدن" و "صنعاء" للعمل بشكل مشترك لازالة أسباب التوتر بينهما، حين أبلغوا متحدين "ياسر عرفات" باستعدادهم لاستقبال المقاتلين الفلسطينيين. وبالفعل بدأوا بالتوافد إلى شطري اليمن بعد خروجهم من بيروت في أوائل شهر سبتمبر من العام نفسه.

على الرغم من تعاقب الأجيال والسلطات الحاكمة جنوباً وشمالاً، بقي اليمن على تقليده الطويل بالتضامن مع الشعب الفلسطيني…بمن فيهم حركة أنصار الله، فعِقب عملية "طوفان الأقصى" هدد قائد الحركة "عبد الملك الحوثي" في 10 أكتوبر بقصف إسرائيل بطائرات المسيرة والصواريخ واتخاذ اجراءات عسكرية أخرى… وبقدر ما أصبح للحوثيين حضورهم الواسع في "صنعاء"، كان هناك قلق بارز للمجلس الانتقالي في "عدن"… وقد تنامى هذا الحضور في "صنعاء" من خلال:

1- أيديولوجية حركة أنصار الله التي تتجلى في شِعارين يرددهما الحوثيون: "الموت لإسرائيل"   و"اللعنة على اليهود".
2- المظاهرات العفوية ضمن مناطق سيطرة الحوثيين من دون الحاجة إلى التعبئة، كانت سبباً في احراج المجلس الانتقالي في "عدن" المدعوم اماراتياً، لعدم قدرته على اتخاذ أي خطوة عملية للمشاركة في إسناد القضية الفلسطينية.
3- إثبات مصداقية حركة أنصار الله قولاً وفعلاً بشأن فلسطين المحتلة، مما ضاعف من شعبيتهم الداخلية، نظراً للحضور الفاعل للقضية الفلسطينية في اليمن.

4- منحتهم فرصة فتح باب التجنيد على مصراعيه، حيث أنشأوا معسكرات لتدريب المتطوعين على القتال في فلسطين المحتلة وطالبوا بحق المرور لقواتهم من المملكة السعودية للذهاب إلى فلسطين.
وبما أنّ خيارات التدخل المتاحة للحوثيين مقيّدة جغرافياً وعسكرياً، وبما أنّ الهدف هو فقط وقف الحرب أكثر من العمل على توسيعها، جاء قرارهم باغلاق "باب المندب" أمام الملاحة الصهيونية كورقة قوة أتت أُكُلُها فيما مضى، حيث سيطر الحوثيون على أول سفينة شحن في البحر الأحمر واحتجزوا طاقمها في 19 نوفمبر، سرعان ما تدحرج الى استهداف سفن تجارية لدول أخرى تصب في خدمة الكيان الغاصب، أسفرت هذه العمليات عن نتائج آنية، ونتائج أخرى قيد الاستثمار:

1) التصدي اليمني للسفن المتجهة إلى الأراضي المحتلة، أجبرها على تحويل مساراتها عبر رأس الرجاء الصالح بتكلفة متزايدة إلى حد كبير. مما ترك الأثر الاقتصادي المباشر على الكيان، وغير المباشر دولياً لأهمية باب المندب الاستراتيجية على البحر الاحمر، الذي يشكل حوالي 60% من التجارة العالمية، ليعود قائد حركة أنصار الله "عبد الملك الحوثي" فيهدّد من جديد بمنع السفن المرتبطة بالكيان الغاصب من عبور المحيط الهندي باتجاه رأس الرجاء الصالح في دلالة واضحة إلى امتلاكه الصورايخ القادرة على التعامل مع هذه السفن في عمق المحيط.  

2) تثبيت معادلة وحدة الساحات من خلال الحصار البحري الذي فرضه الحوثيون، لتكون اليمن الدولة العربية والاسلامية الوحيدة التي اتخذت إجراءات مؤلمة ضد العدو ذات أثر دولي.

3) أتاحت للحوثيين نفوذاً اقليمياً ودوراً فاعلاً في المستقبل سواء بين دول الخليج العربي أو دول البحر الأحمر، أو حتى في الصراع اليمني الداخلي.

4) التأثير المباشر والايجابي لموقف الحوثيين مما يجري في فلسطين المحتلة اليوم على سمعة الحركة نفسها، مما أكسبها زخماً غير مسبوق في العالمين العربي والاسلامي وعلى نطاق واسع.

5) اجتذاب الاهتمام الدولي أبقى الحوثيين في عناوين الأخبار العالمية مما شكل مصدر ازعاج واحراج كبيرين للولايات المتحدة والقوى الأخرى المؤيدة للإحتلال.

6) اطلاقها لصواريخ ومسيرات اتجاه الأراضي المحتلة، واعتراض هذه المقذوفات من قبل البحرية الأمريكية في البحر الأحمر أو من قبل بعض دفاعات الدول العربية فضح حجم تورط هذه الأنظمة مع الكيان المحتل.

7) تَعرِيتهم للأمريكيين من لُبُوس الهيبة، عبر صمودهم في مواجهة اعتداءات "واشنطن" و"لندن" وعدم الانصياع لإملاءاتهم، حتى باتت اليمن مصدر قلق جديّ للأمريكيين ما يُفضي إلى تآكل النفوذ الأمريكي في المنطقة.

شكلت المواقف الدولية بشأن "غزة" بعد "طوفان الأقصى" ودرجات الاستجابة لها، إختباراً للعالمين العربي والإسلامي. ففي حين اتخذت دول عربية موقف الحياد السلبي، يراقبون من خلف الأسلاك الشائكة ما يجري في الداخل الفلسطيني، واعتبر آخرون أنّها حرب الجمهورية الاسلامية في إيران على الأراضي الفلسطينية، ذهب الأمر بالبعض إلى وصف المقاومين في "غزة" بالإرهابيين، وبُغية التماهي مع الصهيانة من باب "التكفير" عما ارتكبوا من مجازر بحق الفلسطينيين! فَتحوا أبواب موانئهم البحرية وحدودهم البرية كبديل عن "باب المندب"، مانحين الصهاينة "إشارة خضراء صامتة" لإستمرارالحصارعلى قطاع غزة، موقعين على "براءة ذمة" ملوثة بدماء أطفال فلسطين ... في وقت عَرقَل "اليمنيون" الملاحة في هذا المضيق من أجل وقف الحصارعن "قطاع غزة" بغية إيصال الغذاء والدواء لأطفاله.. فإذا كان للحكمة والأصالة والشهامة من موطن فموطنهم "اليمن"... وإذا كان للعزة والكرامة والشجاعة من باب، "فبابهم المَندِب"... ومن أجل هذا سُدت منافذه…

المصدر : جنوبيات