بأقلامهم >بأقلامهم
بين القيادة السنيّة .. وفقهاء الشيعة .. كيف انتقل الصراع ضد الصهيونية؟
بين حائط "البراق" الذي يعتبره المسلمون وقفاً إسلاميا لهم، وحائط "المبكى" عند اليهود الذين يتخذونه مصلى لهم، هو الحائط ذاته الذي وقعت فيه "ثورة البراق" خلال شهر اغسطس العام 1929، حين دخل اليهود فجأة على الحائط، وهم يصيحون "الحائط لنا" مطالبين به كجزء من هيكل سليمان، وينشدون نشيد الحركة الصهيونية، في استفزاز واضح للمسلمين الفلسطينيين، اندلعت على أثره اشتباكات عنيفة في ارجاء القدس سقط خلالها العديد من القتلى والجرحى، حيث دعا في أعقابها مفتي فلسطين الشيخ "أمين الحسيني" إلى مؤتمر إسلامي في القدس، عُقد خلال شهر سبتمبر العام 1931, بحضور علماء دين من المذاهب الإسلامية كافة، بمن فيهم المرجع الديني الشيعي الشيخ "محمد الحسين آل كاشف الغطاء" الذي وقف خطيباً بالحاضرين لمدة ثلاث ساعات حيث أفتى بحرمة بيع الأراضي لليهود…داعياً المسلمين إلى توحيد كلمتهم ضد الصهاينة الغاصبين… وبعد خطبته النارية هذه أصرّ الحضور على أن يؤمَّ بهم صلاة الجماعة في المسجد الأقصى طوال فترة المؤتمر. وفي العام 1936 حضر إلى القدس العلاّمة الشيخ "عبد الكريم الزنجاني" متوجهاً إلى ساحل فلسطين حيث تل أبيب اليوم موجهاً خطاباً إلى الصهاينة أنذرهم بعاقبة الأمور في حال استمروا بالاستيطان… وفي دلالة على مواكبته لأحداث فلسطين أصدر الشيخ محمد آل كاشف الغطاء في العام 1938 فتواه بالجهاد ضد الصهاينة قائلاً: "أيها العرب أيها المسلمون بل أيها الناس أصبح الجهاد في سبيل فلسطين واجباً على كل إنسان …لا بحكم الأديان والشرائع بل بحكم الحس والوجدان ووحي الضمير".
وتوالت بعد ذلك المواقف الداعمة للقضية الفلسطينية من قبل كبار الفقهاء الشيعة، فعلى أثر إعلان تشكيل الحكومة الصهيونية في فلسطين العام 1947، دعا آية الله "أبو القاسم الكاشاني" الناس إلى التظاهر أمام مسجد سلطاني في طهران يوم 11 يناير من العام نفسه لدعم فلسطين، حيث احتشد عشرات الآلاف دعاهم خلالها إلى القتال ضد الصهيونية معلناً: "أنّ في تشكيل هذه الحكومة سيكون هناك بؤرة فساد في الشرق الأوسط والعالم جميعاً"…ومن جبل عامل وخلال نكبة فلسطين العام 1948 طالب "السيد عبد الحسين شرف الدين" في رسالة له العرب والمسلمين: "المبادرة الفورية إلى نصرة فلسطين"… واثناء العدوان الصهيوني على مصر وسوريا والأردن والضفة الغربية في يونيو العام 1967 بعث المرجع السيد "محسن الحكيم" برسالة إلى "محمد رضا بهلوي" شاه ايران في ذلك الوقت يدعوه فيها: "إلى اتخاذ موقف لدعم الشعب الفلسطيني والوقوف إلى جانب قضايا المسلمين". ومن لبنان في العام نفسه برزت مواقف وفتاوى لعلماء دين شيعة تدعو إلى "الجهاد ضد الصهيونية" أمثال الإمام السيد موسى الصدر والعلاّمة السيد علي مهدي آل إبراهيم حين قال:" إنّ موقفنا عقائدي مع القضية الفلسطينية لأنّها قضية حق وشأن المظلوم أن يكون مع المظلوم"…
وأيضا في العام نفسه أصدر الإمام آية الله "روح الله الموسوي الخميني" من النجف الأشرف فتواه الشهيرة التي قضت: "بتحريم أي نوع من العلاقة السياسية أو التجارية مع الكيان المحتل، وحرّم بيع النفط إليه"، حيث كان الشاه يبيع الصهاينة حوالي 6 ملايين برميل من النفط يومياً، وما موقف الإمام الخميني هذا، إلا تتمة لمواقفه السابقة من الصراع مع الصهيونية وامتداداً لمواقفه ما بعد انتصار الثورة والداعمة للقضية الأساس القضية الفلسطينية …
وما بين انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في اوائل فبراير العام 1979 وتوقيع اتفاقية السلام المنفردة في "كامب ديفيد" من قبل كل من جمهورية مصر العربية والكيان الغاصب في 17 سبتمبر العام 1978، أشهر معدودات كانت كفيلة بإجراء تحولات تاريخيّة، ليس لإخراج مصر من دائرة الصراع العربي- الإسرائيلي فحسب، وليس لدخول إيران ميدان المواجهة المباشرة ضد الصهيونية فحسب أيضاً، إنّما لما خلّفته الثورة الإيرانية من زلزال جيوسياسي على مستوى الصراع في الشرق الأوسط، إن من ناحية التداعيات الدراماتيكية للنزاع الايراني - العربي، وإن من ناحية التغييرات الجذرية للعقيدة القتاليّة ضد الكيان المحتل من قومية عربية إلى أممية إسلامية امتدت إلى يومنا هذا، بعد أن أصبحت الجمهورية الإسلامية الايرانية تشكل العمق الجيوستراتيجي الديني في الصراع ضد الصهيونية، في وقت تراجع فيه المدّ الثوري العربي، حيث أعادت بعض الدول والأنظمة العربية صياغة أيديولوجياتها المرتكزة على مبدأ السلام الدائم مع الكيان الغاصب ولو على حساب القضية الفلسطينية، في أوسع عملية استهداف لثوابت الدين والأخلاق والمبادئ الأنسانية وبغية إسكات وإلهاء مجتمعاتها عن المطالبة بالحقوق العربية والإسلامية في فلسطين التاريخية، أطلقت شعارات رنانة تحت عنوان "الإصلاح والانفتاح" إرضاءً للغرب…
في المقابل عزّزت الجمهورية الإسلامية في إيران ايديولوجية العداء للكيان الغاصب، فلم تعمل على تصدير الثورة إلى العالم على الرغم مما أشيع حول الأمر، بل صدرّت ما هو أعمق وأهم من ذلك، حين أعطت "بُعداً دينياً للقتال ضد الصهيونية"، ولم تكتف بالعداء السلبي للكيان المحتل فقط...ما أزعج الكثيرين فأخافهم إلى درجة تحويلهم البوصلة من فلسطين إلى محاولات القضاء على الثورة الإيرانية… وعلى الرغم من ذلك لم تتوقف إيران وعلى مدى خمسة عقود من امداد الحركات المقاومة للاحتلال في فلسطين بالمال والسلاح والتجهيزات والخبرات، أمثال: حركة حماس، و الجهاد الإسلامي.. وهذا ما ظهر جلياً من خلال صمود فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة على مدى سبعة شهور من المعارك الضارية، منذ اندلاعها في "7 أكتوبر". وفي حين يرى الكثيرون أنّ على الجمهورية الإسلامية الإيرانية ترجمة دعمها للمقاومين في غزة، ليس من خلال الإمدادات والتصريحات فقط، بل في خوض الحرب مباشرة ضد العدو الصهيوني إلى جانب ساحات لبنان واليمن والعراق …ليطرح السؤال نفسه، لماذا لا تساند إيران غزة مباشرة؟ في وقت قصفت فيه الكيان المحتل عندما هاجم قنصليتها في دمشق؟..ويكمن الجواب في عدة أسباب تذكيرية وليست تبريرية:
1. القدرات الإيرانية على الدمج بين البراغماتية في مصالحها السياسية الوطنية، وبين الأيديولوجية السياسية في العداء الديني المطلق للصهيونية، وبالتالي تعلم أن ظروف الحرب وميدانها الجغرافي يجعلها من الصعوبة بمكان الدخول في مواجهة برية أو بحرية مع العدو على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
2. إيران دولة مستقلة وعضو في منظمة الأمم المتحدة وليست فصيلاً أو حزباً ضمن دولة، لذلك تلجأ طهران إلى سياسة الفوز بالنقاط وتعمل وفق استراتيجية التحرك البطيء والنشاط الدقيق للحلفاء في ضرب المصالح الأمريكية بروية حتى تحقق ما هو أهم من النصر على الكيان الغاصب، الا وهو إكراه واشنطن على تفكيك قواعدها في المنطقة والانسحاب الكامل والشامل من الشرق الأوسط.
3. تيقن إيران أنّ أي صراع مباشر مع العدو الصهيوني هو ليس صراعا مع كيان محتل ومغتصب بل هو صراع مع القوى الدولية والإقليمية، وهذا ما أثبتته المواجهة الأخيرة من خلال المسارعة الدولية والإقليمية في صد الهجمات الصاروخيه الايرانية على الكيان الغاصب.
4. التحالف والتعاون الأمريكي والصهيوني مع الدول المحيطة لايران: تركيا، أذربيجان، تركمنستان، باكستان، الإمارات العربية المتحدة، البحرين، قطر، السعودية، وإقليم كردستان العراق، قد تُلزم من خلالها "واشنطن" البعض منهم، وفي أسوأ الاحتمالات كلهم على إعطاء تسهيلات أو الانضمام لنشاطات معادية ضد إيران.
5. مراعاة ايران لحليفيها روسيا والصين فيما يتعلق بالثوابت الاستراتيجية والمتغيرات السياسية الدولية، في ظل الحصار الاقتصادي والعقوبات المفروضة عليها.
6. تدخل إيران المباشر سيؤدي حتماً إلى استثمارالكيان له في استدراج العطف الدولي والإقليمي، كما سيُفضي إلى توحيد الداخل الصهيوني الذي بات منهكاً ومتشرذماً أكثر من أي وقت مضى منذ تاريخ نشأته ، وهو في ذلك يسابق الوقت لينفجر في وجه بنيامين نتانياهو.
7. الاعتداء العسكري الجوي الذي نفذه العدو على القنصلية الإيرانية في دمشق هو اعتداء على الأراضي الايرانية وبالتالي يمس هيبة الدولة، لذا بات الرد حتمياً وسيتبعه ردودٌ إذا ما تكررت الاعتداءات الصهيونية.
من هنا فإنّ الموقف الإيراني من العداء للكيان الصهيوني ليس بموقف سياسي مرحلي يدور كيفما تكون فيه مصالح الأمم، وهو ليس موقف آني يُتخذ…فيُترك… ليُنسى، بل هو استمرارية عمل جهّادي طويل في نصرة المظلوم على الظالم حتى زوال أسبابه، وهو امتداد لنهج لديه مرتكزات عقائدية متجّذرة في التاريخ الإسلامي والإنساني، عبّر عنه كبار الفقهاء الشيعة في مناسبات عديدة…كان بمقدور ايران وفي أكثر من مناسبة، أن تعقد الصفقات الدولية من وقف الدعم للمقاومة الفلسطينية إلى الصلح المتبادل مع الكيان المحتل إلخ…مقابل أن تصبح دولة نووية ومنحها مساحة إقليمية من النفوذ في المنطقة، كل هذه المكتسبات الاستراتيجية كانت لتكون على حساب القضية الفلسطينية…وخِلافاً للعقيدة الدينية الإسلامية التي على أساسها قام النظام في إيران، والتي على أساسها حُددت الأهداف الاستراتيجية، ووُضِعت ثوابت الأمن القومي، والمس بهم قد يُشعل حرباً إقليمية، يخشاها الجميع بمن فيهم العدو الصهيوني، فهل يجرؤ على ذلك؟…