بأقلامهم >بأقلامهم
أحادية الكيان الإسرائيلي في الحرب يكسرها "الحزب" .. والجليل المحتل يقيد خيارات العدو…
أحادية الكيان الإسرائيلي في الحرب يكسرها "الحزب" .. والجليل المحتل يقيد خيارات العدو… ‎الأحد 12 05 2024 14:37 العميد محمد الحسيني
أحادية الكيان الإسرائيلي في الحرب يكسرها "الحزب" .. والجليل المحتل يقيد خيارات العدو…

جنوبيات

 الواقع الذي يتناساه الكثيرون أن الحدود اللبنانية منذ نشأة الكيان الصهيوني كانت دائماً تحت العدوان اليومي المستمر، لكن بصمت سياسي من قبل المعتدي والمعتدى عليه على حد سواء، فحين هدأت الجبهات العربية في العام 1948 استمر الكيان الغاصب بالتنقل من جبهة إلى أخرى في توقيت يملك زمام عقاربه إن على الجبهة المصرية أو السورية أو حتى الأردنية. وحده لبنان بقيت أنظار العدو تتطاول عليه أكثر فأكثر على الرغم من سكوت المدافع على الجبهات الأخرى. حيث بدأ العدو سلسلة اعتداءاته اليومية على لبنان بعد أشهر معدودات من توقيع اتفاق الهدنة، حين اخترقت لأول مرة في 13 اكتوبر العام 1949 دورية لجيش الاحتلال الحدود اللبنانية، من دون رادع من احد ومن دون سبب، واتجهت مباشرة إلى قرية يارون، واستدعت ناطور أملاك القرية وكلفته بنقل تعليماتها إلى أهالي يارون والقرى المجاورة، تقضي بجمع السلاح من اللبنانيين وتسليمهم إلى مستعمرة المالكية في موعد اقصاه الساعة 13 من بعد الظهر, وبعدها بخمسة أيام اشتكى عدد من المزارعين من أهالي مرجعيون إلى الحكومة اللبنانية، بأنّ الصهاينة استولوا على 10 آلاف دونم في الحولة تعود ملكيتها لهم، وتعتبر من أجود الأراضي الزراعية وهي: الخالصة، الزوق التحتاني، الناعمة، الزوية، المنصورة السميرية، الزوق الفوقاني وابل قمح. وحمل الأهالي المسؤولية للدولة بسبب عدم توفيرها الحماية اللازمة لهم، اضافة إلى إحجامها عن التعويض عليهم، بعد أن باتوا مهددين مع عيالهم بالموت جوعاً...

 وتزاحمت الاعتداءات الصهيونية على القرى اللبنانية، من تدمير منازل، إلى قتل مواطنين أو خطفهم, إلى سرقة المواشي أو قتلها، اضافة إلى إحراقهم للمحاصيل الزراعية، كل ذلك في محاولة لدفع الأهالي الى النزوح، في وقت لم يكن العمل الفدائي الفلسطيني قد شق طريقه بعد على الساحة الجنوبية. ما أدى إلى إقبال المواطنين في الجنوب على التسلح الفردي لحماية انفسهم وأرزاقهم، وفي حادثة ذات دلالة على ذلك اقدمت صباح الأول من يونيو العام 1956 عصابة صهيونية مسلحة على مهاجمة مزرعة الظهيرة في لبنان الجنوبي واطلقت النار على الأهالي، فقابلوها بالمثل وظل الطرفان يتبادلان إطلاق النار حتى وصلت قوة من الجيش اللبناني، ففر جنود الاحتلال من دون اشتباك مع الجيش، كل هذا وكانت الحكومة اللبنانية تكتفي برفع الشكوى الى الأمم المتحدة لا غير. إلى أن حصلت مواجهة مباشرة بين الجيش اللبناني والعدو الصهيوني هي الأولى من بعد معركة المالكية، وذلك في 8 نوفمبر من العام 1960 إذ اصطدمت الدوريتان ببعضهما البعض على طريق بلدة المجيدية، كان خلالها العدو عائدا من البلدة المذكورة باتجاه الأراضي المحتلة محملاً بقطيع من الماعز المسروق، حيث اشتبكا لمدة ساعة من الوقت، انتهت بفرار دورية العدو…

تلا ذلك صدامات صغيرة ومحدودة إن في المكان أو في الزمان، إلى أن حدثت "عملية ميونخ" وهي عملية احتجاز لرياضيين صهاينة من قبل "منظمة أيلول الأسود" وذلك أثناء دورة الأولمبياد الصيفية المقامة في ميونخ في ألمانيا من 5 إلى 6 سبتمبر سنة 1972، وكان مطلبهم الإفراج عن معتقلين عرب في سجون الاحتلال. انتهت العملية بمقتل 11 رياضياً إسرائيلياً و5 من منفذي العملية الفلسطينيين…

دفعت هذه العملية بالقضية الفلسطينية إلى الأضواء العالمية، ودفعت العدو بعدها بعشرة أيام إلى المهاجمة بقواته ومن دون مبرر الخاصرة العربية الأضعف "لبنان"، وذلك فجر يوم 16 سبتمبر العام 1972، حين دخلت قوة صهيونية تقدر بلواء مدرع ومنقول الأراضي اللبنانية يواكبها دعم جوي كثيف، وهاجمت القطاع الأوسط على محورين، الأول بين عين إبل وصفّ الهوا، والثاني بين عيترون وبنت جبيل. ونظرًا إلى حجم القوى المعادية وإمكاناتها مقارنة بما كان متوافراً للجيش، قضت خطة العمليات باعتماد القتال التأخيري، ودارت معارك عنيفة على مساحة 850 كلم مربع، حتى انسحبت القوة الغازية من وادي السدّ نهائياً، عند الساعة الحادية عشرة والنصف من ليل 17 سبتمبر. بلغت خسائر العدو 18 قتيلاً وعدداً من الجرحى وتدمير وتعطيل 9 دبابات و 3 مجنزرات، أما خسائر الجيش اللبناني فقد بلغت 8 شهداء وبعض الجرحى وتدمير مصفحتين وعدد من الآليات. لكن انتهاكات العدو لم تتوقف ففي الشهر نفسه من يوم 23 دخلت قوة صهيونية إلى بلدة كفرشوبا وقتلت لبنانيين من دون مبرر…

من هنا لم يعد سراً على أحد أن الكيان الصهيوني منذ نشأته قد تعاطى مع لبنان بغطرسة مفرطة، وبشكل مختلف عن باقي الدول العربية، مركزاً على نقاط ضعف الدولة اللبنانية منذ الاستقلال، أبرزها:

النظام السياسي الطائفي الهش القائم على المحاصصة المذهبية، أفقدت لبنان توازنه السياسي واستقراره الأمني، بسب النزاعات المزمنة بين رجال السياسة المتعاقبين، حتى غدا لكل عهد رئاسي نهايته الدراماتيكية، باستثناء عهد اللواء فؤاد شهاب.
الخلافات الداخلية بين السياسيين والأحزاب بمختلف أطيافها، وعجزهم على التوافق حول سياسة لبنان الخارجية، والموقف من الصراع العربي- الصهيوني، نتج عنها إهمال مقصود وغير متعمد في إعداد خطة دفاع استراتيجية ضد العدو الصهيوني، يُعمل بها على مستوى الوطن ككل.
عدم إقرار موازنة دفاع تتلاءم مع حاجات الجيش اللبناني من سلاح وعتاد من قبل الحكومات المتعاقبة أسوة بجيوش المنطقة، بغية قيام الجيش بواجبه الوطني في ردع العدو، والاعتماد في أغلب الأحيان على الهبات الخارجية التي لا تغني ولا تسمن من جوع.
 ومن بعد شكاوى لبنانية متعددة بدءاً من العام 1949 ضد العدو الصهيوني، صدرت عدة قرارات لمجلس الأمن تطالب فيها الكيان الغاصب بالانسحاب الفوري من الأراضي اللبنانية، أبرزها القرار رقم 262 في العام 1968، والقرار رقم 313 في العام 1972، كل هذا ولم يلتزم الكيان الصهيوني بهذه القرارات واستمرت انتهاكاته للسيادة اللبنانية على مدى عقود من الزمن، كما استمرت من دون إنذار مسبق غزواته للبنان بمختلف الأشكال، وفي كل مرة كانت تضطر قواته الغازية الى الانسحاب مدحورة، وليس آخرها عدوان تموز 2006، الذي أعقبه صدور القرار 1701 وعلى غرار ما سبقه من قرارات لم يرتدع العدو من انتهاك السيادة اللبنانية.

وصولاً إلى يوم 8 اكتوبر من العام 2023 حين أعلنت المقاومة الاسلامية من لبنان دعمها واسنادها لجبهة غزة، وبعد مضي حوالي 220 يوماً على ذلك، انقلب المشهد على الحدود الجنوبية رأساً على عقب، فلأول مرة منذ العام 1948 وبعد تاريخ طويل من الاعتداءات الصهيونية المتكررة، يثأر "حزب الله" للبنان ويبادر الى مواجهة العدو فيهاجم المستوطنات كما هوجمت القرى اللبنانية على مدى عقود ويضرب القواعد العسكرية للاحتلال في عقرها، ما أدى كل هذا إلى:

انهيار ركيزة العدو الأساس "الحسم"، فبعد أن كان يجتاح القرى اللبنانية من دون سابق إنذار، أصبح متردداً حيث يُطلق تهديداته الفارغة بغزو لبنان في أطول معزوفة تهديد بالاجتياح من دولة الى دولة، مستمرة منذ أشهر ولغاية تاريخه. حيث استلم لبنان زمام الأمور في مواجهة العدو وبات يُتقن لعبة توازن الرعب، إذ هو من يُهدد الكيان المحتل إن هو تجرأ على الغزو، مع ما ينتظره من مفاجآت.
فشل ذريع لأسطورة الاحتلال في "الردع والإنذار"، حين أصبح لبنان هو المبادر إلى مهاجمة الكيان المحتل، والغزو بواسطة المسيرات، والاستطلاع الميداني للأراضي المحتلة، والأبرز محاكاته لمعادلة التدمير بالمثل بعد أن كانت أحادية الجانب ووفقاً لمزاجية العصابات الصهيونية التي عانى الجنوب اللبناني منها طويلاً.
بعد أن كان حصراً على سكان القرى الجنوبية، ارتد مسلسل الرعب والقلق على مستوطني الجليل، إن من خلال فِعل التهجير بحد ذاته أو بإلحاق الضرر في مستوطناتهم أو في الخسائر بالأرواح أو حتى في الإحساس بالاضطهاد واللامبالاة الرسمية التي يكابدونها. لقد تذوقوا لأول مرة مرارة ما قاساه المواطنون في الجنوب اللبناني من ممارسات جيش الاحتلال على مدى عقود.
انتقلت عدوى الخلافات والانقسامات من لبنان إلى داخل الكيان بعد أن أعلن رؤساء المستوطنات في الجليل عن قيام دولة الجليل والانفصال الأحادي عن دولة "إسرائيل"، في خطوة موجهة ضد حكومة نتنياهو بسبب عجزه عن حل معضلتهم.
كل هذا ما كان ليتحقق اليوم لولا النصر الميداني تلو النصر الاستراتيجي ل"حزب الله"، ومثلما هو متعارف عليه عسكرياً أن لا قدرة للبندقية على التصدي لدبابة الميركافا، بسبب انعدام التوازن في معادلة القوة والردع بينهما، فإن قوة الردع الهجومية التي ابتكرتها المقاومة خلال الحرب الحالية قد تفوقت على استراتيجيات القتال في الدفاع الكلاسيكي أقله في جنوب لبنان، بعد أن تجاوزت السياج الحدودي لتنفذ هجمات مركزة وموجعة ضد العدو مستخدمة أسلوب جديد يعتمد على "الهجوم الرادع في الدفاع"، قادر على التأقلم مع مقتضيات كل معركة…حيث نجحت في تكريسه حاجة استراتيجية طويلة الأمد جاهزة للاستخدام في أي خطة دفاعية مستقبلية عن لبنان…

 

المصدر : جنوبيات