لبنانيات >أخبار لبنانية
بعد 39 عاماً خلف القضبان... كيف يكملُ محمد ومرعي حياتهما خارج "المبنى الأزرق"؟
بعد 39 عاماً خلف القضبان... كيف يكملُ محمد ومرعي حياتهما خارج "المبنى الأزرق"؟ ‎السبت 11 02 2017 10:07
بعد 39 عاماً خلف القضبان... كيف يكملُ محمد ومرعي حياتهما خارج "المبنى الأزرق"؟


بعدما بقيا 39 عاماً خلف القضبان، فتح باب سجن رومية لهما. خرج محمد عيتاني ومرعي شوك يجرجران خيبتيهما، مصحوبين بمرض نفسي استفحل بهما. خرجا من دون ان يكون اي من عائلتيهما في انتظارهما. لم تكن وجهتهما الى منزل دافئ يخفف من صقيع وحدة عاشاها طوال حياتهما، ولم يجدا قريباً يعيشان معه، ولا عاطفة يغمرهما بها انسان.
من المأوى الاحترازي او كما يعرف بـ"المبنى الأزرق" في سجن رومية، انتقل محمد ومرعي قبل نحو ستة اشهر الى جمعية "سعادة السماء" التي لو لم تعلن عن موافقتها على استقبالهما لبقيا الى اليوم نزيلين خلف القضبان، منسيّين من العالم الخارجي مع 49 شخصاً لا يزالون يقبعون هناك، وهم من اصحاب الجنح والجنايات الذين يعانون من اضطرابات نفسية وعقلية، أصيب معظمهم بحالات انفصام في الشخصية بالاضافة الى مرض "السيدا".

"مزحة" أدت الى "وِحدة"
يعيش الاثنان حالياً في "قرية الإنسان" التابعة للجمعية، وهي ضيعة صغيرة نموذجية تقع في بلدة المعيصرة على ارض معزولة عن العالم. الطريق اليها غير معبدة، كأنك تسير الى وادٍ غير معروفة نهايته، الى حين رؤية صليب كنيسة وهلال مسجد يرتفعان جنباً الى جنب، وتظهر الاشجار والاكواخ الخشبية، عندها يعلم الزائر ان ثمة حياة على هذه البقعة من الارض التي خصّصت للمدمنين على المخدرات. لكن ذلك لم يمنع الاب مجدي علاوي من ان يفتح ابواب بعض المنازل فيها للعجزة المهمّشين من الجميع.

قرية إنسان

 

خارج كوخ معلّق على حافة الجبل جلست مجموعة من المسنين، اما مرعي فكان يتمشى ذهاباً واياباً على بعد أمتار منهم. قيل لي ان الحديث معه لا يجدي، فقد احتدم مرضه الى درجة انه لم يعد يقوى على الكلام. الرجل الستيني كان هادئاً جداً، خجولاً الى ابعد الحدود، حتى كعكة العيد رفض ان يقبل ضيافتها. طلبت منه الجلوس لنتكلم، وافق على الفور، وعندما سألته لماذا كان في السجن أجاب بصعوبة: "عملت مشكل، مزح". أصرّ أن ما تسبّب به لم يكن عن قصد، أعاد كلمة "مزح" مرات عدة، رافضاً ان يتوجه لمن نسوه او تناسوه خلف القضبان. هو يتذكر جيّداً انه من الضنية، وقال" لا احد يزورني وأرغب بزيارة ضيعتي". وعن الذي يزعجه في الحياة لفت الى انه "لا شيء يزعجني". وعما اذا كان سعيداً في القرية، قال "ماشي الحال".

بين الندم والخذلان
في ذلك الوقت ذهب شاب واتى بمحمد، كان جريئاً وضحوكاً، تحدث بثقة، قائلاً: "خرجت من سجن ودخلت آخر". وعن الجرم الذي ارتكبه، قال: "أطلقت النار على والدي، كوني دائماً اتشاجر معه، كنت في الثامنة والعشرين من العمر. هددني حينها مسلحون، اعتقدت ان والدي ارسلهم. سألته لكنه أنكر الامر، وفي احدى المرات كنا في المنزل، فاحتدم الاشكال بيننا، اطلقت النار عليه وعلى جاري، فارديتهما على الفور". وعما اذا حزن بعد فعلته أجاب: "بداية لم اشعر بشيء، لكن بعد شهر ندمت، ليتكرر الشعور نفسه بين الحين والآخر".
عانى محمد من ضيق شديد خلال فترة سجنه، وقال: "كنت أشعر ان القضبان تطبق عليّ. زارني في البداية شقيقي، وبعدها لم اعد أرى احداً من عائلتي". سكتّ قليلاً قبل ان يضيف: "لديّ كذلك شقيقة". يبلغ عيتاني وفق قوله " 76 سنة وهو يعتبر ان الحياة "حلوة" وأجمل ما فيها الطبيعة والطعام والشراب، اما الناس "فلا يعنون له شيئاً".

خطة على"الطريق"

وكان وزير الشؤون الاجتماعية بيار أبي عاصي قد عقد اجتماعاً اليوم للبحث في موضوع السجناء وذوي الاحتياجات الخاصة في السجن. وأكد لـ"النهار" انه "لدينا مساعدون اجتماعيون ونفسيون يتدخلون حيث تدعو الحاجة، إما بطلب من الشخص أو الأهل أو ادارة السجن. أتأمل قريباً أن انزل على الأرض لأعاين عن قرب الخطة التي تلبي حاجاتهم وتخفف من معاناتهم، والأهم من كل ذلك تؤهلهم سواء بالامكانات الموجودة أو بامكانات اكبر يمكن تأمينها من الدولة او المانحين". وأشار الى انه مع التكامل بين الوزارة والمجتمع الأهلي، "كون الدولة لا يمكنها تلبية كل الحاجات وبالتالي فان التعاون والتكامل بين امكاناتها وخبرات وطاقات جمعيات المجتمع الأهلي اكثر من ضروري، وهناك جمعيات جدية يجب الاضاءة عليها ومساعدتها ومتابعة عملها".

ردمت "الثغرة" ولكن!
منذ عام 2008 يتابع الاب علاوي مساجين "المبنى الارزق"، ويتواصل مع المسؤولين لاطلاعهم على الظلم الذي يعانون منه. وشدد على ضرورة اخراج من تبقى منهم، قائلاً "يوجد ثغرة في المادة 232 من قانون العقوبات اللبناني التي تنص على الآتي: "من ثبت اقترافه جناية أو جنحة مقصودة وقضي بعدم مسؤوليته بسبب فقدانه العقل حجز بموجب فقرة خاصة من حكم التبرئة في مأوى احترازي. ويستمر الحجز الى ان يثبت شفاء المجنون بقرار تصدره المحكمة التي قضت بالحجز". وكما نعلم فان من يعاني من حالة الانفصام في الشخصية لا يشفى". واضاف: "مكان المريض النفسي ليس خلف القضبان بل دير الصليب لتلقي العلاج. نعم ارتكب محمد ومرعي ومن في المبنى الازرق جرمًا، لكن عقوبة الاثنين كانت سنة بسبب ارتكاب كل منهما جريمة قتل. ورغم انهما من فاقدي الاهلية، الا انهما لم يخضعا للعلاج. كلنا مسؤولون بدءاً من الجمعيات، قصر العدل، الحكومة، والوزارات المعنية، وكل من زارهم من المجتمع الاهلي ولم يحرك ساكناً".
بعدماعلم علاوي بقصة محمد ومرعي شعر انه مسجون معهما، وقال: "أسفرت الجهود عن تشكيل محكمة ولجنة متخصصة لدرس قضايا مسجوني المبنى الأزرق وتخفيض عقوبتهم، توصلت الى ردم الثغرة، فاعتبرت ان تحريرهم يتطلب تسليمهم الى اهلهم، او توقيعهم وموافقة جمعية على استقبالهم، تعهدت باستقبال الاثنين". ولفت الى انه "ليس المهم عدد الصلوات التي نصلّيها وما اذا كنا نقرأ القران ام الانجيل بل مدى ما احببنا وسامحنا ورفعنا الظلم عن الغير". من السجن الى المستشفى الى فندق للترفيه، وبعدها زيارة الى مسقط رأسهما، تذكر خلالها محمد ومرعي الكثير.

"يا عيب الشوم"
ما يحصل في "رومية" وصفه وزير الداخلية السابق مروان شربل بـ"المأساة"، لافتاً الى ان اشخاصاً انتهت عقوبتهم ولا احد يسأل عنهم. عندما كنت في الوزارة كان يوجد 12 سجيناً يعانون من السيدا، 5 من مرض السرطان، اضافة الى اثنين اصيبا برصاصة في الرأس، اما في ما يتعلق بالمرضى النفسيين فيجب أن تؤكد حالتهم لجنة أطباء، وينصّ القانون على استمرار توقيفهم لحين شفائهم. لكن هل يصدّق انسان انه يمكن الشفاء في رومية أو في ايّ من سجون لبنان الـ 21".
يكمن السبب الرئيسي لتعطيل المحاكمات في لبنان في "عدم وجود عمليات سوق على خلفية النقص في العناصر الأمنية"، لذلك طلب شربل انشاء هيئة قضائية ومحكمة قرب السجن، "وبالفعل شيّدت المحكمة على طرف رومية على مساحة الف متر، وقد كلّفت مليوني ونصف مليون دولار، وسلمت الى النيابة العامة في بيروت. عقدت فيها جلسة واحدة ليمتنع القضاة بعدها عن العمل داخل مكاتبها، لذلك اقول يا عيب الشوم".

المصدر : النهار- أسرار شبارو