بأقلامهم >بأقلامهم
بالنظام - الجيل الرابع
جنوبيات
قلق #غسان تويني كان دائماً على #الصحافة فقد قال بأن "أسوأ ما في الصحافة أنها تُكتَب على الورق، وعلى الورق تُطبع... فهي إذاً فانية المادة، ولو تسامت الأقوال والأفكار. حتى أن واحدنا يستغرب باستمرار كيف تبقى الأفكار، وتستمر الصور في الذاكرة، حتى ساعة لا يبقى من الجريدة أو المجلة غير وريقات بالية ممزّقة مصفرّة..."
يطرح هذا الكلام مسألة الوسيطة التي تحمل المادة الصحافية وهشاشتها منذ ما قبل العصر الالكتروني. كما يطرح أثر الطبيعة الهشّة لهذه الوسيطة على المادة، أي الأفكار والصور التي تحملها وعلى بقائها وتأثيرها. ومما لا شك فيه أن الأستاذ غسان على رغم قلقه المعبّر عنه في هذا التساؤل، كان على يقين من تأثير الأفكار وانتقالها بمجرّد وصولها إلى من يقرأون، والتحدّي هو في الحفاظ على ثقافة الحرف أي ثقافة الكتابة والقراءة. وهذه العلاقة المباشرة بين الأفكار وقرّائها تتخطّى أحياناً كثيرة الكاتب فتطير تلك الأفكار لتستقر في عقول الآخرين وتُشكّل قناعاتهم ومواقفهم من الأمور العامة. وفي هذا السياق يمكن تقديم عشرات الأدلة التي تبيّن كيف تنتقل الأفكار التي تُكتب هنا وتتحوّل إلى طروحات ومواقف، منها مؤخراً مطالبة الأستاذ وليد جنبلاط بتطبيق اتفاقية الهدنة للعام 1949 لأنها تتضمن إجراءات انسحاب متوازنة من الطرفين، واعتماد #مجلس النواب تعبير "السوريين المقيمين بصورة غير مشروعة" بدلا من تعبير النازحين، وغيرها الكثير مما كُتب هنا.
اليوم تُكتب الصحافة وتبقى في عالم افتراضي لا يعلم أحد إلى متى يستمر بالبقاء أو ما إذا كان هو سيتحوّل إلى الوجود الحقيقي بالفعل أو بنظر الأجيال الآتية. ولكن "النهار" تتجدّد في كلا العالمين وبذلك لم يكن غسان تويني على خطأ حين أهدى كتاب "سرّ المهنة وأسرار أخرى" إلى نايلة بالذات في العام 1995 واضعاً بذور الأمل بمستقبل الكلمة: "إلى نايلة #جبران تويني... أهدي هذا الكتاب، علّها عندما تصير تقرأهُ، تجد في تراث الصحافة الماضية ما يكفي ليَغسِلَ أيام جيلها الرابع بالعزّ، فيعود إلى ثقافة الحرف المكتوب."
الجيل الرابع على مستوى الوطن عامةً يحتاج أن يقرأ التاريخ الحديث والمعاصر كي يتمكن من البقاء لأن البقاء بحدّ ذاته أصبح مرهوناً بالخيارات الكبرى التي سوف يختارها هذا الجيل بالذات، وهذه الخيارات تكون كارثية إذا لم تكن مبنية على المعرفة والوعي الذاتي الذي لا يمكن تكوينه إلّا بقراءة تجارب السابقين والنهل من العلوم الإنسانية وليس بالاكتفاء بالعلوم التطبيقية، أي بالعودة إلى ثقافة الحرف المكتوب كما قال غسان تويني.
تتزامن ذكرى غياب غسان تويني هذا العام مع تحقيق "النهار" خطوات جبارة في عالم الصحافة تأتي في عكس الاتجاه الذي تسلكه الصحافة عامةً والورقية منها تحديداً منذ سنوات والذي يتضمن مشهداً واحداً هو الإقفال أو التوقف عن الصدور الورقي والاكتفاء بالطبعة الالكترونية. في هذا الزمن بالذات تمكن الجيل الرابع متمثلاً ب#نايلة تويني من عكس مجرى التاريخ وتغيير مصير النهار نحو الولادة المتجددة والأفق العربي الأرحب.
نظرية ابن خلدون حول الأجيال التي تمرّ على تأسيس وحكم الدول، والتي تقول بأن الانهيار يبدأ مع الجيل الثالث، لم تنطبق إذاً على "النهار" أو على آل تويني. وهي لو صحّت هنا لكانت "النهار" قد اندثرت كغيرها من الصحف وغابت مع غياب وجوه الأجيال الثلاثة الأولى والتي تعاقبت منذ التأسيس على يد جبران تويني الجدّ، والنهوض والتحديث وبلوغ الذروة مع الأستاذ غسان، وصولاً إلى تقديم أسمى أشكال العطاء في سبيل الوطن عبر شهادة جبران الإبن.