بأقلامهم >بأقلامهم
شهادات أهالي قرى جنوب لبنان المحاصرة بالنار والموت
جنوبيات
أثبتت الحرب المتواصلة في قرى جنوب لبنان، لا سيما الحدودية منها، وسقوط ضحايا مدنيين طوال أكثر من ثمانية أشهر أن هذه القرى والبلدات لم تخلُ تماماً من أهلها وساكنيها، على رغم نزوح ما يزيد على 100 ألف مواطن ولجوئهم إلى مناطق وبلدات أكثر أمناً.
حكايات وأضرار
حكايات كثيرة دارت في القرى التي عاشت أياماً من جحيم القصف والغارات وأدت إلى تدمير مئات البيوت والدور والأبنية العالية والمزارع والمؤسسات والمراكز التجارية، وسقوط نحو 90 مدنياً، واحتراق ما يفوق 900 هكتار من الأراضي الزراعية ونفوق نحو 34 ألف رأس ماشية. ومع ذلك عاش المواطنون في حاراتهم وبيوتهم وقراهم لحظات وساعات من الخوف والرعب مع سقوط القذائف والصواريخ المدمرة على مسافات قريبة منهم، في مقابل فسحات من الهدوء كانت تتبدى مع توقف المعارك ودوي القذائف لساعات قليلة مما يتيح لهم الخروج والتزود بالطعام وتفقد الجيران والأصدقاء.
لكن، ومع تصاعد الهجمات والقصف المتبادل وارتفاع مستوى التهديدات، لا سيما منذ قرابة شهر أو أكثر وحتى اليوم شعر كثر من الصامدين في بلداتهم، بأن منسوب الخطر على حياتهم صار عالياً، وترافق ذلك مع انهيار منظومة ما يطلق عليها "قواعد الاشتباك" بين الإسرائيليين وعناصر "حزب الله"، وتحول الطرقات الحدودية الرئيسة والفرعية إلى مصيدة للعابرين عليها، مما جعل مسألة تأمين الخبز والغذاء والحاجات الضرورية صعبة جداً، كانت تصل إلى حد المستحيل في أحيان كثيرة، هذا الأمر دفع كثيرين منهم أخيراً إلى ترك بيوتهم والالتحاق بعائلاتهم النازحة بعيداً من مناطق الاستهداف المباشر.
واستطاعت "اندبندنت عربية" التواصل مع كثير من الأهالي القاطنين في القرى الحدودية المحاصرة أو المتنقلين منها وإليها، واستطلعت منهم مجريات أيامهم في ظل الحرب التي تحيط بهم من كل حدب وصوب، وسجلت الحكايات والانطباعات الآتية:
دخان القصف يتصاعد فوق بلدة عيتا الشعب بجنوب لبنان في 4 نوفمبر الماضي (أ ب)
الطيبة: حوار مع الأموات
يحكي المهندس علي صادق رسلان وهو متقاعد في قوى الأمن الداخلي، عن تجربته البقاء في بلدته الطيبة (منطقة مرجعيون)، فيقول "كنت أتسلم ورشاً وأديرها وكان وقتي مليئاً من الثامنة صباحاً وحتى الثانية فجراً، وأتت فجأة الحرب فاضطررت في المرحلة الأولى إلى تدوير الزوايا، بقيت أتفقد مشاريعي في حيز من الوقت إلى أن وصلت إلى مرحلة لا فائدة فيها من العمل والتحرك، ثم حدث فراغ كبير خصوصاً بعد اضطراري إلى وقف كل نشاطاتي وبت من دون أدنى عمل". وتابع "بعدها صار يتكرر البرنامج عينه في كل يوم، يمكنك أن تخرج لعند بعض الجيران، أن تسير في أزقة القرية، وكنت في النهار أطعم 17 من القطط التي تركها أصحابها. ولأننا صرنا نحفظ قواعد التحرك ونمط الحرب، يمكننا بعد الظهر أن نخرج أكثر بخط سير مقبول، نتفقد بعضنا في الحي القريب أو في الأحياء الأخرى، لكن لاحظنا أن أفضل ملاذ للجميع هو زيارة المقابر، خصوصاً إذا ما قارنت بين البلدة الخالية من ناسها والمقبرة المليئة بالناس لكنهم غير أحياء، نتحدث إليهم ولا يردون. نبقى كذلك إلى السابعة مساء أو الثامنة فيلتزم الجميع بيوتهم، ويمكن للجيران القريبين أن يزوروا بعضهم، فنتسلى قليلاً".
اجتراح المبادرات لتمضية الوقت
وعن لحظات القصف والخطر يقول رسلان، "لم تمر غارة إلا وشعرنا أننا تحت الخطر، لأن القذيفة عمياء والخطأ وارد حتى لو كنت مقتنعاً بأنك لست هدفاً عسكرياً، وأننا مجموعة من الأهالي وبيننا نساء ومسنون والطائرات تراقبنا وتعلم ذلك. لكن ما جعلني أبقى في البلدة مع أنني استأجرت منزلاً خارج المنطقة، هي قناعتي الذاتية بأنني لن أقابل جندياً إسرائيلياً في ساحة الطيبة، وكانت عندي مسلمات أن الإسرائيليين لن يتمكنوا من الوصول إلى بلدتنا، أما باقي الأمور من قذيفة وطائرات وقصف لو طالتك في أي مكان ربما يكون هذا قدرك".
ويشير رسلان "عائلتي صغيرة، ابني الكبير بسنة أولى جامعة في النبطية، لم يعطل أي يوم دراسي، في المرحلة الأولى من الحرب ظل يذهب بسيارة أجرة إلى النبطية ويعود إلى الطيبة، خصوصاً في الشهر الرابع، إلى أن توقف الباص الذي كان يقله مع رفاقه بعد تراجع عدد الطلاب بسبب نزوح ذويهم، وأنهى ابني الفصلين الدراسيين، لكن، نحن أرباب العائلات ممن كانت لدينا أعمالنا الخاصة وتوقفت فجأة، تأثرنا كثيراً وخصوصاً بالفراغ المميت".
المميت".
حكايات كثيرة دارت في القرى التي عاشت أياماً من جحيم القصف في جنوب لبنان (ا ف ب)
دفع الفراغ رسلان ورفاقه إلى استنباط بعض المهام الخدماتية، فيقول "لدينا جرار زراعي منذ 50 عاماً، هو ذكرى من الراحل أبي، وأمي ترغب دائماً في أن تسمع صوت محركه، قطرت به صهريج ماء وقصدت عين الضيعة وملأته بالمياه وصرت أزود بعض البيوت المحتاجة كي نساعد بعضنا ونمضي الوقت الطويل والروتين اليومي. في بحر النهار كنا نلحظ بعض الحيوية في ساحة البلدة وتمر دوريات لليونيفيل، أسهم بذلك وجود بائعي خضراوات ودكانين. لكن لم نغامر بالخروج إلى القرى المجاورة، مثل العديسة ودير سريان والقنطرة، بل نبحث عما يلهينا، ويمكنني القول إن أكثر ما أعاني منه اليوم هو هذا الفراغ، إنه صعب جداً، لشخص يبلغ من العمر 54 سنة، أمضى 30 سنة منها من الخدمة في قوى الأمن الداخلي، وفجأة صرت بلا عمل وبلا أي شيء".
دير سريان: خوف وانقطاع المياه
أكثر ما يُشعِر المزارع حسين علي ناصر البالغ 83 سنة من بلدة دير سريان (مرجعيون) بالحزن هو عدم توافر المياه، فيقول "أنا بقيت هنا حتى اليوم في قريتي دير سريان، لكن أكثر ما يوجعني أنني مضطر إلى أن أدفع 45 دولاراً ثمن صهريج مياه كبير، مما يصعب علي الأمور التي تهون عندما تتوافر المياه، فأنا مزارع ولدي حديقة وكرم قريبان من البيت، ما يقهرني أنني أرى ما زرعته في سنوات طويلة ييبس أمامي. عندي موسم جوز أتكل عليه ويؤمن لي سنوياً نحو 140 كيلوغراماً، لم أرش الشجرات بالأدوية اللازمة نتيجة الخوف من القصف وتوقف المواصلات وعدم الري، فذهب محصولنا هباء منثوراً". ويضيف أبوعلي "زرعت 20 كيلوغراماً بصلاً فيبست، وزرع 150 كيلوغراماً ثوماً، كذلك خسرتها لأنني تحاشيت الذهاب إلى الحقل خشية استهدافي من قبل المسيرات الإسرائيلية. لقد تعبنا كثيراً وطال الأمر، وهذا الرعب لا يتوقف، دوي الصواريخ والقذائف، وما يؤثر فيك أكثر أنك تخرج إلى باحة دارك أو إلى الطريق المجاور ولن تجد أحداً تحييه، تسلم عليه، تخاطبه. لكن ما يجعلني أصمد ها هنا هو إحساسي لو أن كل واحد منا ترك قريته والأرزاق فمن سيبقى فيها أو يصمد؟".
عيترون: بقاؤنا أقل الواجب
يؤكد الطبيب الجراح إبراهيم السيد من عيترون (قضاء بنت جبيل)، أن "البقاء هنا ليس نوعاً من العناد، بل ينطلق من خلفياتنا التي تربينا عليها، فأنا طبيب جراح ولدي قناعة أنني يجب أن أبقى هنا وفي المستشفى القريب في بنت جبيل، فوجودي في هذه المنطقة هو أقل الواجب وهو جزء من عملي ومهمتي الإنسانية، وخلفتيك الوطنية تفرض عليك أن تكون في المكان الصحيح وقت الشدة".
ولدى سؤاله عن أن نمطاً من حياته لم يعد طبيعياً، يرد "بالتأكيد، يكفي أن تعيش بعيداً من عائلتك وأولادك، وحركتك لم تعد كالسابق بل مقيدة نوعاً ما، نومك لم يعد طبيعياً، من المؤكد أن تحولاً كبيراً وطارئاً في حياتك يجب أن تتأقلم معه كي تستمر، خصوصاً وأنك لا تعلم متى سيتوقف".
ويشير الطبيب السيد إلى أنه في حرب عام 2006 بقي في بنت جبيل في المستشفى، "وكان الجنود الإسرائيليون لا يبعدون عنا أكثر من 75 متراً وحصلت مواجهات، كان الخوف وقتها أكثر من اليوم، علماً أنني أتنقل على الطريق يومياً بين عيترون وبنت جبيل، وفي ألف مرة تراودني فكرة أنني لن أصل إلى البيت أو بالعكس. وكنت قبلها أذهب إلى مستشفى ميس الجبل الحكومي، من عيترون وبليدا، ومستوطنة المنارة الإسرائيلية لا تبعد عنا أكثر من 400 متر، على طريق خطرة جداً، عدا عن تعرض محيط مستشفى ميس للقصف المدفعي. أفكر أحياناً أن أداري رأسي خلف شمعة باب السيارة ظناً مني أن الشظية لن تخترقها".
في عيترون المحاصرة بالغارات والمسيرات يحارب الطبيب ملل الوقت بسماع الأخبار والإنصات إلى الحوارات التلفزيونية والتحليلات، "أو في ناد صغير عندي في بيتي أمضي فيه ساعتين أو أكثر ممارساً رياضة يومية، وأبقى على اتصال مع عائلتي، مع ابنتي المقيمتين في عين المريسة (بيروت)".
بليدا خلت من الحياة
يشير الطبيب الجراح هاشم جابر من بليدا (بنت جبيل) إلى "أن العيش في بليدا أضحى صفراً، وأي حركة فيها تصبح موضوع استهداف من الإسرائيليين، لذلك خلت البلدة تماماً من أهلها، وهذا ربما جعل الغارات على بليدا تتراجع أخيراً نوعاً ما، إذ لم يبق هدف فيها، لم يبق شيء واليوم يتركز القصف والغارات على عيترون، وميس الجبل، وكفركلا، والخيام، وعيتا الشعب".
حولا النازفة
وسقط في بلدة حولا منذ بدء الحرب، من ثمانية أشهر ونصف الشهر 14 من أبنائها جراء الغارات الإسرائيلية أو استهداف المسيرات أو القصف المدفعي، بينهم نساء وأرباب عائلات وعنصر من قوى الأمن الداخلي.
وفي الثاني من يونيو (حزيران) الجاري، استهدفت غارة إسرائيلية المزارعين محمد وعلي مصطفى قاسم في منزلهما في بلدة حولا، مما أدى إلى مقتلهما وتدمير المنزل تدميراً كلياً. محمد وعلي رفضا مغادرة البلدة إذ يقتنيان بجانب حقول زراعية ست بقرات و150 رأس غنم ودواجن، أصلاً لم يجدا مكاناً خارج البلدة يأويهما مع مواشيهما فآثرا البقاء في حولا.
تقول شقيقتهما ربيعة مصطفى قاسم وهي نازحة من بلدة زوجها عيترون "في بادئ الأمر لم يظن والدي وإخوتي أن الحرب جدية أو ستطول هذه المدة الكبيرة، لذلك كانت الناس تخرج من حولا وتعود إليها، فخرج أبي وأخي وأختي المتزوجة وكانت تعيش قريبة منهم، وبقي شقيقاي. بعد مدة قصيرة عاد أبي إلى الضيعة وقطف مع إخوتي محصول الزيتون، لكن بعد تأزم الأمور أكثر فأكثر وتكرر القصف على حولا وسقوط ضحايا مدنيين، خاف إخوتي على والدي المتقدم في السن، خصوصاً أنه وحده بعدما توفيت والدتي منذ سنة ونصف السنة، أخذه إخوتي إلى بيروت وبقي محمد وعلي يسرحان بالقطعان ويحلبان البقرات والغنمات.
"لن يستهدفوني"
تضيف ربيعة قاسم "حاول شقيقي علي أن يجد مكاناً خارج الضيعة كي ينقل إليه المواشي لكنه لم يوفق، ولم يرد أن يبيع ما يملكه بأسعار متدنية جداً، وعلى رغم أن شقيقي محمد يخاف من القصف، لكنه لم يرد أن يترك أخاه وحيداً. مع اشتداد القصف وسقوط مزيد من الضحايا اتصلت بأخي علي قبل يوم من الحادثة ورجوته أن يخرج من حولا، ووعدني بأن يعمل على ذلك، في اليوم التالي وبعد سماعنا بالغارة على حولا، اتصلت بهما، لم يردا، اتصلت بأحد معلمي القرية وكان داخل البلدة فأخبرني أن الغارة استهدفت بيتنا".
تروي ربيعة أن شقيقها علي كان متأكداً أنه غير مستهدف لأنه مدني ويخرج بقطيعه في وضح النهار، حاورته أكثر من مرة في هذا الأمر وكان يرد علي أنا مدني ولن يستهدفوني، كان يستبعد الأمر، لذلك بقي هناك. وكنت كلما سمعت خبراً اتصل به، فيرد فوراً "أنا بخير لن يقتربوا مني".
مني".
نزوح أصعب من الصمود
عن يوميات القصف والصمود في حولا يتحدث طبيب الأسنان كاظم يعقوب، وقد لجأ أخيراً، منذ أسبوعين إلى بلدة القليعة، جارة مرجعيون. فيروي الآتي "بداية أود أن أوضح أن النزوح أشد قسوة من معاناة الصمود في البلدة، لأنني عندما بقيت كنت في بيتي آكل وأشرب وأنام، أسمع القصف قريباً مني ومع ذلك كنت لا أخاف لأنني أشعر بنوع من الأمان كوني مدنياً". ويضيف "في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وبعد أيام على الحرب كانت الأوضاع شبه طبيعية في حولا، جميع الناس في بيوتهم ومتاجر البلدة تفتح بصورة طبيعية، حتى كان يوم 10 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023، إذ حدثت أول غارة جوية على حولا وأتت بعيدة من بيتي 40 متراً، في منزل جيراننا، تساقط الزجاج والأسمنت والحصى علينا. لكن بعد الهدنة، أي بعد أسبوعين صارت القذائف تتساقط قرب البيوت واشتعلت النيران بعدد من البساتين والكروم، إلى أن حل العام الجديد وبدأ الناس يغادرون في نزوح شبه جماعي، لا سيما بعد سقوط امرأة وابنها بقصف مدفعي طاول حولا".
ويشير يعقوب إلى أن "حولا تعرضت في 11 فبراير (شباط) الماضي لقصف عنيف على وسط القرية، فسقطت تسع قذائف في الساحة العامة مما أدى إلى سقوط الدركي علي محمد مهدي ورفيقه حسين حسين، ثم أغار الطيران الحربي بعد يومين على مركز تجاري كبير قرب مخفر درك حولا مما جعل نسبة النزوح ترتفع إلى أقصاها ومن بقي في الضيعة صاروا قلة قليلة وبيتنا منهم".
إلى أن "دقت السكة"
يضيف: "في حينا لم يبق إلا أنا ووالدتي وشقيقي وشقيقتي، كنا نطبخ ونأكل باستثناء اللحوم والدجاج والخضراوات والفاكهة. وصار الخبز يأتي إلى الضيعة كل يومين أو ثلاثة في فترة الصباح، ونشتريه معظم الوقت وقد مر على خبزه يومان أو أكثر. وبعد أن قصف أحد المنازل على هذا الطريق صار نادراً وصول بائع الخبز إلى قريتنا. وبقي دكان وحيد في ساحة الضيعة يفتح أبوابه إلى أن تعرض للقصف منذ نحو شهر وسقط فيه مدنيان هما سامر ياسين وحسين عطوي، وسقط قبلهما بيوم واحد آخران كانا على دراجة نارية".
يروي يعقوب كيف كانت تهدأ المدافع والمناوشات في فترة الصباح وقبل الظهر "فنشعر كأننا في هدنة، نخرج قليلاً ونحاول تأمين ما يلزمنا، ثم تشتد بعد الظهر فنلجأ إلى زوايا البيت نختبئ فيها، إلى أن اشتد القصف وطاولت الغارات مركزاً تجارياً من ستة محال وثلاثة طوابق لا يبعد عنا كثيراً، عندها نزحت أمي وشقيقتي، وبقيت أنا وشقيقي نجلس وقت القصف والغارات في الزوايا وكل واحد في غرفة، واقتصر طعامنا على المعلبات والبيض وشح الخبز، وصرنا ننتظر القادمين من خارج الضيعة حتى نطلب إليهم أن يحضروا بندورة أو خياراً أو قالب جبن أو ما يستطيعون حمله، إلى أن سقط المزارعان الشقيقان محمد وعلي قاسم، فقلنا: دقت السكة، علينا المغادرة".