بأقلامهم >بأقلامهم
من غزة: خمسة أيام تحت النار والدمار والحصار في تل الهوى
مع ساعات الفجر الأولى من يوم الاثنين الماضي، الثامن من تموز/يوليو الجاري، انهمرت مئات القذائف المدفعية من قبل جيش الاحتلال على حي تل الهوى، ومع مرور الوقت كان القصف يزداد كثافة وعنفاً على مربع "دوار أبو مازن"، حيث أقيم وعائلتي.
استمرت كثافة القذائف المدفعية تنهمر ودون انقطاع تمهيداً لتوغلٍ بدأته دبابات الاحتلال وآلياته، بالتزامن مع إطلاقها نيران رشاشاتها بغزارة نحو البيوت، غير آبهة بمن يسكنها من الناس.
توغلت الدبابات تتقدمها الجرافات العسكرية الضخمة في كل الأنحاء تزأر، وهي تقتلع ما تبقى من الشوارع والبيوت وشبكات الخدمات وحواف الطرق، وفوقها تحلق طائرات "كواد كابتر" تطلق النار على كل متحرك أو من يحاول النزوح من الأماكن المستهدفة، فيسقط عشرات الشهداء والجرحى الذين كنا نسمع صراخهم طلباً للنجدة، دون أن يكون في اليد حيلة، حيث أن طواقم الإسعاف وفرق الدفاع المدني مستهدفة ومحظور عليها التحرك للوصول للمنطقة.
ما هي إلا بضع سويعات خلال النهار حتى وصلت الدبابات لمنطقة الصناعة والجامعة ودوار أنصار، توزع حمم الموت في كل مكاناَ وصوب، وبحثاً عن "مكان آمن" نزلت وأفراد أسرتي من سكنتنا للاحتماء في إحدى الشقق بالطابق الأول، وما هي إلا لحظات حتى انقضت طائرة "كواد كابتر" على بعد عشرة أمتار منا، مستهدفةً أحد الجيران الذي حاول النزوح وقد نجى وعاد إلى بيته فلاحقته أخرى بقصف مركز لبيته.
خلال هذه الإغارة، كنت محتمياَ في مكان على عجل ومن ضخامة الانفجار اقتلعت الأبواب وتطاير الزجاج وحط أحد الأبواب فوق جسدي، فتسبب ذلك بفزع وصراخ البنات كلارا ونورا ولينا وأم حسين، وسارعوا يرفعن الباب الثقيل عن جسدي الذي نَحلَ في حرب الإبادة هذه.
وكما هو الحال بكل محطات هذه الحرب الدموية، حافظنا على رباطة الجأش، وانتقلنا إلى شقة مجاورة، فلاحقتنا قذائف الدبابات تصفح وجه البرج السكني الغربي، فيتطاير ما تبقى من زجاج.
كلٌ منا بدأ يحمل أوراقه الشخصية وزجاجة مياه وعلبة معلبات تعيننا على ما هو قادم من صعاب، بعدما أصبحت الشقق غير آمنة على الإطلاق.
اتخذنا من درجات السلم مكاناً ظنناه آمناً، تكورنا حول بعضنا البعض في حالة صمت وفزع من شدة الخطر المحدق بنا.
مع ساعات مساء ذلك اليوم، جرت مواجهات ضارية في ذات المربع، سمعنا الصراخ وسيارات الإسعاف، كما سمعنا أصوات المطارق واصطكاك أسنان الجرافات في برج أبو ظبي السكني الملاصق لبرجنا، وما هي إلا لحظات ووقع دوي انفجار كبير تحول فيه البرج المكون من طوابق ثمانية إلى أثر بعد عين، بعد أن سويّ تماماَ بالأرض جراء القصف المركز الذي تعرض له، وبعد أقل من ساعة على ذلك، دوى انفجار مماثل فهوى برج آخر من طوابق ثمانية أيضاً ملاصق لبرج أبوظبي.
حلت ساعات المساء ولم يتوقف القصف، وعلى هدير الآليات العسكرية المجنزرة وأزيز الرصاص، ونحن ننتقل من درجة إلى أخرى، نهرب من الموت فنجده يلاحقنا مع كل قذيفة مدفع أو رشقة رصاص يخترق جدران البرج الذي تحتمي فيه.
ومن حيث كنا، صعدنا إلى الطابق الخامس حيث تقع شقة أحمد وابنتي كلارا، سلمنا أمرنا لله وفحصنا ما لدينا من مياه وطعام وعزمنا على التقشف استعداداً لما هو أخطر.
كانت شبابيك الشقة أبوابها قد تطايرت جراء عنف الانفجارات وغدت مكشوفة لطائرة "الكواد كابتر" التي تحوم تنشر الموت في المنطقة، وبدت وكأنها تريد الدخول من الشبابيك. اجتهدنا بسرعة أغلقناها بما توفر من البرادي، واتفقنا كلنا على عدم إشعال أي ضوء أو الرد على أي اتصال هاتفي، وهنا نشكر كل الذين حاولوا الاتصال للاطمئنان علينا ولم نتمكن من الرد عليهم لخطورة الوضع الذي كنا فيه، وكانت هذه الليلة لم تكن أقل قسوة عن ما سبقها.
مع ساعات مساء يوم الثلاثاء، زادت عدد الدبابات في الشارع، تزأر وتطلق النار في جميع الاتجاهات، توقفت أسفل برجنا، وسمعنا أصواتهم يصرخون ويخلعون أبواب الشقق في برج الطاهر الذي يبعد عنا عشرة أمتار، لاحظنا أن فرق الهندسة تعمل على تفجير ونسف برج الطاهر المكون من سبعة طوابق.
وفيه تقيم عائلة أبو وائل التي كانت قد نزحت إليه قبل حين، ومع حلول المساء وكل منا يتكور في ركن يظنه آمناً، وإلا بصوت دوي انفجار آخر هز برج الطاهر وكأنه علبة من البسكوت، عجنت طوابقه بعضها ببعض، فيما تصارعنا تحن مع تطاير الأبواب والنوافذ ورافعات البرادي التي استقبل رأسي احدها، فهبت أسرتي فزعة خوفاَ على، لكن طمأنتها أنني بخير.
نسف جيش الاحتلال البرج، وقادت تلك العائلة المسكينة للنزوح إلى الجنوب، بعد أن كانت رفضت ذلك لعشرة شهور خلت.
ومن عجيج الغبار والدخان الناجم عن هذا الانفجار، أصيبت ابنتي نورا بالاختناق وأصبحت تتنفس بصعوبة، عالجنا الأمر دون أن نصدر صوتاً يلفت انتباه جنود الاحتلال المتربصون في الشوارع والأبراج المتاخمة.
أزاد الخوف واشتد القلق وتشابكت أيدينا، دموع تنهمر وأخرى تحبسها المحاجر بانتظار نسف جديد لبرج آخر، وهو ما تحقق قبيل منتصف الليل، حيث عمل جنود الاحتلال على نسف عمارة الحايك المكونة من خمسة طوابق، واقتلعت أسنان جرافة ضخمة منزل "فيلا" مجاورة، وكلاهما لا يبعدان عن البرج الذي نقيم فيها أكثر من عشرة أمتار.
رغم قسوة الحصار وشدة النيران القصف وحجم الدمار وحالة الرعب، كانت أم حسين تجد وقت لإعداد الطعام، وكانت كلارا ولينا ونورا يتسللن للمطبخ لتنظيف، وأحياناً لاختلاس النظر واستطلاع الأمر في الشارع المحاذي، كما كنت أنا وأحمد نجازف لإصلاح الأسلاك لشحن البطاريات والجوالات أسفل البرج رغم ما يحمله ذلك من خطر.
يوم الأربعاء، لم يتوقف القصف وزخات الرصاص وان كان التواجد المباشر قد تراجع، وأضحى بمثابة دوريات تجوب المنطقة بين الحين والآخر، تارة بالآليات وأخرى راجلة تصطحبها الكلاب المتوحشة.
ومع تراجع حدة التحركات، كنا نتنفس الصعداء معتقدين انه انسحاب، لكن سرعان ما بُدِد ذلك الأمل تحت غزارة النيران وعودة الآليات للتمركز ليلة الأربعاء - الخميس أسفل البرج، وقد بدأنا نحسب الثواني بأن دورنا قد حل، كل ما خشيناه أن يتم نسف البرج وتبتلعنا ألسنة اللهب، وفي أفضل الحالات أن يتم إجبارنا على النزوح جنوباً وهو ما رفضناه منذ أن بدأت الحرب، باعتباره ليس فقط معاناة وموت، بل وتهجير تخطط له دولة الاحتلال.
يوم الخميس، اغتنمنا فرصة أفول صوت الدبابات ونزلنا أسفل البرج، فوجدناه حطام، الكراسي التي كنا نتخذها مقاعد للاستراحة وخزانات المياه التي كانت الإغاثة الزراعية تحرص على تعبئتها كل أسبوعين تطايرت، وواجهة سيارتي "الجيب توسان" قد تهشمت مرة أخرى.
ونحن في جولة التفقد تحت النار، داهمتنا مرة أخرى الدبابات، فسارعنا إلى قلعتنا التي كنا نظنها كذلك، وغابت شمس الخميس تحمل ملامح انسحاب كنا نتلمس ملامحه من الأخبار المتواترة التي كانت تنقلها تباعاً ضحى زوجة ابني، ونقرأه أيضاً من كثافة النار براً وبحراً وجواً، لكن هذا الانسحاب لم يتحقق إلا جزئياً صباح اليوم الجمعة، عندها عقدنا العزم على مغادرة المنطقة التي غادرها الناس منذ عشرة شهور ولم تعد صالحة حتى لسكن القطط.
لسوء حظنا ونحن نرتب أمرنا للخروج، عادت الدبابات وتمركزت عند شركة جوال على بعد مئة متر من مكاننا، وظهر الأمر وكأنه تمركزاً ليس ثابتاً، يتحرك من حين لأخر.
اعددنا عدتنا بحمل ما خف حمله ويعننا على تحمل مشاق نزوح إجباري هو أخف من نزوح نحو الجنوب، في تلك اللحظات فإذا بصوت فريق الإغاثة الزراعية (أحمد سعد وسالم السوسي)، قد وصلوا مغتنمين فرصة تحرك الدبابات للتبديل أو هكذا القدر كان، حيث ابلغوني أن الرفيق الحبيب (تيسير أبو ياسر) طلب منهما الوصول إلينا وإخراجنا بأي طريقة، تحركنا معهما بين أكوام الركام وعلى وقع انفجارات القذائف حتى وصلنا لدوار أبو مازن، ثم الصناعة حيث تتكوم جثث الشهداء والجرحى التي لم تتمكن سيارات الإسعاف من الوصول لهم، نقلتنا سيارتهم لبيت الرفيق ناصر الفار، وهناك قابلنا الأحبة (أبو بلال وأبو الرائد) هؤلاء الذين تقطعت قلوبهم قلقاً علينا فأكثروا كما غيرهم من الأحبة من اتصالاتهم للاطمئنان، فنشكرهم جميعاً.
لقد نجونا من جولة الحصار والنار هذه، وقد حصدت عشرات الأصدقاء والجيران وما زالت جثثهم في الشوارع يصعب الوصول إليها، حيث ما زالت الدبابات جاثمة حيث كانت.
ملاحظة: وأنا في خضم كتابة ما أكتب، فجعت بأن قلب معلمة اللغة الإنكليزية والفرنسية السيدة الامازيغية الجزائرية، وهيبة آيت مسغات "أبو مطلق" قد توقف عن الخفقان، بعد أن لم يحتمل كل هذا العذاب والألم، هذه المرأة الجزائرية الفلسطينية التي كنت قد كتبت عنها بتاريخ 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2023، بأنها جسدت بطولات نساء الجزائر في جبال الأوراس، حيث تسللت بصمت فجرَ يومٍ دامٍ تحت وابل القذائف إلى بقايا منزلها المدمر في منطقة الميناء لانتزاع كيس طحين إلى جانب أشياءٌ أخرى.
ماتت هذه المرأة المربية بصمت وقهر ودفنت وشارك في دفنها أبنائها بعد أن صار الموت في غزة يقف على الطريق.