عصام بحر، توأم طفولتي وصديق العمر وابن خالتي عزيزة، التي تزوّجت منذ نحو 63 عاماً من (الراحل) صلاح بحر ابن مدينة صور، وأنجبا إلى ابنهما البكر عصام روني وفادي.
وأنا إن عرفت البحر يوماً فمن خلال علاقتي بعصام الذي يجايلني وبقينا رفاق الأيّام والسهرات والصداقات والأحلام، وكنت أنتظره وأنا طفل بفارغ الصبر أن يأتي مع والديه من صور لزيارتنا، وتعلّقت به أكثر عندما بدأت أحلّ ضيفاً على بيتهم في المدينة البحريّة، وكان محاذياً للشاطئ ورماله، قبل أن تتبدّل معالم المنطقة وتتغيّر ويتحوّل هذا الشاطئ الأروع إلى أوتوستراد كبير بعد شفط رموله.
في سنوات مرّت، تهنا والصحب على بيادر صربا (الجنوب) وبين أزقّتها العتيقة الدافئة ذات نزوح جراء القصف والعدوان إليها قبل حلول الثمانينيّات وكان عصام وأهله وشقيقاه فادي وروني قد عادوا للتو من الكويت. هناك أحببنا وعشقنا وصادقنا.. وكنا نستمع إلى وردة الجزائرية في روعة الموسيقار محمد عبد الوهاب "في يوم وليلة" وكانت تصدح في سيارة والده "الشفروليه" وهي تجوب طرقات الضيعة…
كنا نكبر سوياً، وشبّ وتزوج عصام من مريم وأنجبا بنتاً أسمياها عزيزة، ولم يطل أمر الزواج، فآلت تربية عزيزة إلى خالتي أم عصام، بينما تقلّب هو من مصلحة إلى مصلحة، ومن سفر إلى آخر، إلى أن قرّر الاغتراب نحو أفريقيا، فأقام في الـ"كوت دي فوار" في أبيدجان وهناك تزوّج من فتاة مغربيّة وأنجبا ابنة جميلة اسمياها آية، لكنّ آية الشابّة الحلوة والتي بلغت 22 عاماً قضت منذ نحو ثلاثة أشهر (آذار/ مارس) بحادث سير بينما كانت برفقة صديقتها التي نجت، ما أوجع عصام وقد أصابه السرطان في المدّة الأخيرة وخضع للعلاج وتحسّنت أحواله، بعدما وقفت آية إلى جانبه وساعدته على المرور من أزمته الصحّيّة المؤلمة هي الأخرى.
استفقت أمس على نبأ حزين، بأن عصام مات وحيداً في غربته، لا أحد إلى جانبه، علماً أنّه وعدني منذ أشهر قليلة بأنّ الوقت حان كي يعود، بعد غربة طويلة استمرّت 12 عاماً متواصلة، وأنّ العودة باتت قريبة جدّاً. لم تعدني يا ابن خالتي أنّك ستعود في صندوقة من خشب إلى مثواك الأخير في مسقط رأسك صور! ألم نقل إنّنا سنتحدّث وسنحكي كثيراً وكثيراً؟
ران الصمت يا عصام، وأيّ كلام سيقال وأنت لن تردّ عليه؟ لن ننتظر مرّة أخرى "شقشقة" الفجر ذات رأس سنة في سهرة حيّ البياض في بيت "أبو جمال"؛ ولا سهر بعد اليوم حتّى بزوغ الفجر على "سطيْحة" خالتي مريم مرتع أحلامنا وشبابنا وصبانا وهرجنا ومرجنا، بعدما خسرنا "منال" الرائعة بالسرطان عينه…
كثرت يا ابن خالتي الخسارات الجسيمة، نفقد الأصحاب والأتراب واحداً تلو الآخر. لم يترك لنا السرطان صديقاً وعزيزاً…
وأنت يا عصام فقد أطلت الغيبة ولن تعود منها أبداً، فما هذه الغربة الموجعة يا ابن خالتي؟ وأنا إذ أردّدها اليوم فلأنّك كنت تحبّ كثيراً أن تناديني: "يا ابن خالتي".
ضاع العمر يا صديقي، لكنّك ربّما ستجد راحتك الأبديّة بعد تقلّبات الحياة وضوضائها وآلامها وخساراتها. لن تبقى إلّا الذكريات الأنيسة والحكايا "المشوّشة" بين أروقة النسيان.
نمّ قرير العين يا عصام، يا بن خالتي، يا صديق الروح والعمر والأحلام…