أمن وقضائيات >أمن وقضائيات
4 أبرياء سُجنوا 4 سنوات: المحققون عذّبوهم واتهموهم بالقتل والمحكمة برّأتهم
الاثنين 6 03 2017 10:21جنوبيات
تحت التعذيب، أُجبر أربعة موقوفين على الاعتراف بارتكاب جريمة لم يرتكبوها. رسَمَ المحققون سيناريو لجريمة قتل وألبسوه للموقوفين الأربعة ليزجّوا في السجن مدّة أربع سنوات ظلماً، حتى قررت محكمة الجنايات في جبل لبنان، برئاسة القاضي فيصل حيدر وعضوية المستشارين ناظم الخوري وساندرا القسيس، تبرئتهم من تهمة القتل، فيما المحققون الذين مارسوا التعذيب لانتزاع اعترافات «مفبركة» لم يتعرّضوا لأي نوع من المساءلة ولم يمثلوا أمام القضاء بحجّة «تعذّر إبلاغهم» من قبل مديرية قوى الأمن الداخلي الخاضعين لها
تواظب الحكومة اللبنانية على إنكار "التعذيب" من قبل أجهزة الأمن وفي مراكز التوقيف والاحتجاز، وتواظب على وصف التقارير والشهادات في هذا الشأن بأنها "مزاعم غير صحيحة" تسعى إلى النيل من "صورة الدولة"... إلا أنَّ محكمة الجنايات في جبل لبنان تؤكّد، في حكم صادر عنها منذ أسبوعين، وجود مثل هذا التعذيب، إذ قررت تبرئة 4 أشخاص، أوقفوا منذ 4 سنوات وتعرّضوا لأقسى صنوف التعذيب الجسدي والنفسي لانتزاع اعترافات منهم بالضلوع في جريمة قتل، ليتبين لاحقاً من الأدلة أنهم ضحايا "فبركة" قام بها عناصر من مفرزة جونية القضائية.
بدأت قصة الموقوفين الأربعة في تموز 2013، إذ ادعى أحمد الجدوع أن صديقه طارق سراقبي حضر إلى منزله في منتصف الليل ليبلغه بسرقة دراجته النارية، فانطلقا مع شخص ثالث يدعى رزوق الجدوع للبحث عن السارقين والتفتيش عن الدراجة. ولدى وصولهم إلى جسر مستيتا، شاهدوا شابين على متن دراجة نارية، فاقترب أحمد الجدوع منهما وأوقف السيارة خلفهما واستعمل الزمور، عندها توجه أحدهما نحوه وبيده مسدس حربي وأطلق عياراً نارياً نحو زجاج السيارة الأيسر قبل أن يفرّ مع رفيقه إلى جهة مجهولة. أصيب طارق سراقبي وما لبث أن فارق الحياة. أجرى عناصر مخفر جبيل كشفاً ميدانياً على مكان حصول الحادثة ليعثر على المظروف الفارغ ويتبين أن الرصاصة من عيار 9 ملم. أحيل بعدها التحقيق على مفرزة جونية القضائية للتوسع فيه.
بعد ثمانية عشر يوماً على وقوع هذه الجريمة، أوقف عناصر شرطة بلدية حارة صخر ــ جونية أحمد العيسى وأحمد شاليش وأحمد برغل وحمزة حمد، وسلموهم لفرع مخابرات جبل لبنان للاشتباه بهم في رصد دراجات نارية في محلة جبيل وكسروان. وضُبط بحوزة العيسى مسدس حربي من عيار 10.5 ملم. جرى التحقيق معهم لدى الشرطة العسكرية في الجيش اللبناني بموجب المحضر رقم 1506/ف ت تاريخ 23/7/2013 ولدى فصيلة جونية بموجب المحضر رقم 2371/302 تاريخ 24/7/2013 ولم يدل الأربعة بأية اعترافات. أُحيلوا بعد ذلك على مكتب مكافحة جرائم السرقات الدولية، وجرى التحقيق معهم بموجب المحضر رقم 3197/302 تاريخ 30/7/2013. ثم أُحيلوا على المفرزة القضائية في جونية، وهناك بدأت القصّة تأخذ منحىً مختلفاً.
كان عناصر المفرزة قد بدأوا تحقيقاتهم في قضية مقتل طارق سراقبي، بموجب المحضر رقم 1549/302 تاريخ 16/7/2013. وباشروا في التحقيق في الملف المحال من مكتب مكافحة جرائم السرقات الدولية بموجب المحضر رقم 1682/302 تاريخ 6/8/2013. فجأة، ظهر في محضر التحقيق بالسرقات، الذي لا علاقة له بمحضر التحقيق في مقتل طارق سراقبي، معلومات "غير معروفة المصدر أو الوجود أو الصحة" تشي بأن الموقوفين الأربعة لهم علاقة بقضية القتل!
قال العيسى إنه خضع للتعذيب ونزعت
أسنانه وأظفاره
بحسب محضر تحقيقات مفرزة جونية القضائية، اعترف حمزة حمد بأنه شاهد أحمد العيسى يطلق النار باتجاه سيارة أوبل. واعترف المتهم أحمد شاليش بأن العيسى أطلق النار من مسدس نوع توغاريف، وهو المسدس نفسه الذي ضُبط معه عند توقيفهم في جونية. وقال أحمد برغل إن شاليش أخبره أن العيسى أطلق النار باتجاه أشخاص كانوا يلاحقونهما.
هذه الاعترافات انتزعت من الموقوفين على الرغم من أنها لا تنسجم مع الأدلة المتوافرة، إذ إن تقرير مكتب المختبرات الجنائية لدى قسم المباحث العلمية يؤكد أن المظروف الفارغ والمقذوف المضبوطين من مسرح الجريمة ليسا من المسدس المضبوط مع العيسى. كذلك أفاد المدعي أحمد الجدوع، عند عرض العيسى عليه، بأن الحادثة حصلت بثوانٍ قليلة، وليس باستطاعته التأكيد مئة في المئة، علماً أن المواصفات التي كان قد أدلى بها عن الشخص الذي أطلق النار تفيد بأنه حليق الرأس وأسمر البشرة وحليق الذقن والشارب، فيما مواصفات العيسى بحسب مكتب مكافحة السرقات الدولية لدى توقيفه تفيد بأنه أسمر البشرة وأسود الشعر وذو ذقن وشارب، وتعدّ الفترة الممتدة بين وقوع الجريمة وتوقيفه قصيرة ولا تكفي لتتغير ملامحه ويظهر شعر رأسه وذقنه وشاربه.
سرعان ما تراجع المتهمون عن اعترافاتهم أمام قاضي التحقيق. المتهم حمزة حمد قال إنه أدلى باعترافاته بسبب الجوع والضرب. كذلك قال المتهم أحمد برغل إنه اعترف زوراً بتورط أحمد العيسى بارتكاب الجريمة لكونه تعرض للضرب. أما المتهم أحمد شاليش، فذكر أن الأقوال انتُزعت منه تحت وطأة الضرب. وذكر أن المحقق أوعز إليه بمضمون أقواله. أما المتهم أحمد العيسى فأنكر كل ما أُسند إليه.
أمام هيئة المحكمة، كرر المتهم أحمد عيسى أنه تعرض للتعذيب في التحقيقات الأولية ونزعت أسنانه وأظفاره وأدلى بأقواله تحت تأثير العنف والتعذيب. وذكر أن باقي الموقوفين كانوا يشاهدونه يتعرض للتعذيب، وقال لهم رجال الأمن إنهم سيتعذبون مثله، فجاءت أقوالهم على هذا النحو، أضاف أن العناصر الأمنيين هم الذين صاغوا الاعترافات وهم وقّعوا عليها. وقال المتهم أحمد شاليش إن ما ورد في محاضر التحقيق «كلو تركيب بتركيب». وذكر أن الاعترافات التي أدلى بها غير صحيحة، وأنه بعد التحقيق بقي يبصق دماً لثلاثة أيام. كذلك فعل المتهم أحمد برغل الذي أنكر ما أسند إليه، مؤكداً أن اعترافاته انتُزعت تحت الضرب المبرح. في المقابل، أكد المؤهل بدوي فغالي والرقيب جورج جرجي، الرتيبان اللذان توليا التحقيق، أن المتهمين لم يتعرضوا للضرب ولم يُملوا عليهم أية أقوال.
اضطرت محكمة الجنايات في جبل لبنان إلى الطلب اكثر من مرة ايداعها تقرير المختبرات الجنائية بخصوص المقذوف المضبوط، وكذلك داتا الاتصالات. واضطرت المحكمة الى اصدار قرارات عدّة بهذا الخصوص قبل ان تنال مرادها، ليتبين من داتا الاتصالات أن الموقوفين الأربعة لم يتواصلوا هاتفياً ابداً في تاريخ الجريمة، ولم يوجَدوا في الأماكن نفسها. ولم تحصل المحكمة على تقرير المختبرات الجنائية إلا في شهر كانون الأول من عام 2016، بعد الإصرار على طلب التقرير، ليتبين أنَّ هذا التقرير منظم بتاريخ 16/11/2013 (رقم 6020/206)، وهو يؤكد أنَّ الطلقة القاتلة هي من عيار 9 ملم ، بينما المسدس المضبوط مع أحمد عيسى هو من نوع توغاريف من عيار 10.5 ملم، أي إنَّ المسدس الذي تمحورت حوله الاعترافات لا يمكن أن يكون المسدس القاتل! اللافت أنَّ هذا التقرير المحوري المنظم في 16/11/2013 لم تسلّمه المفرزة القضائية في جونية للنيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان، أو جرى تسليمه وإخفاؤه لتمويه ممارسات التعذيب وانتزاع إفادات غير صحيحة. وعندما قررت محكمة الجنايات الاستماع إلى منظمي المحاضر من عناصر مفرزة جونية القضائية، وأرسلت لإبلاغهم موعد جلسة الاستماع لهم، جاء جواب المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي بأنه تعذر إبلاغهم ، مع العلم أنهم عناصر في قوى الأمن الداخلي!
وعليه، أعلنت المحكمة براءة المتهمين مما نُسب إليهم للشك وعدم كفاية الدليل.