بأقلامهم >بأقلامهم
بين تل أبيب ومعراب: تفاهم على إنهاء الوجود الشيعي...
جنوبيات
لقد فات أوان الاعتراف بأطماع العدو التاريخية في لبنان دون الإقرار بنواياه التوسعية تجاه المنطقة برمتها. كما فات أوان اعتبار كل ما يصدر عن قادة الاحتلال هو من وحي توراتهم، من دون الجزم بأنها حرب توراتية بامتياز. كذلك فات أوان التلطي خلف سلاح حزب الله كهدف وحيد من الحرب من دون الاعتراف بأهدافه الأخرى، بما فيها الاستيطان. كيف لا وما يحدث ضمن مجتمعات المستوطنين أخطر من الحرب بحد ذاتها، حيث يؤكدون لمن يريد أن يرى مدى الحقد التاريخي لليهود الصهاينة تجاه لبنان، وكيف تتم تعبئة أطفالهم إيديولوجياً ضد وطن الأرز، وكيف يُصار إلى استغلال مقتل أحد جنود الاحتياط "يسرائيل سوكول"، لتبرز على الفور حركة صهيونية للاستيطان في جنوب لبنان عبر منظمة "عوري تسافون". السبب فقط هو لتحقيق حلم قتيلها "سوكول" بالإقامة في جنوب لبنان.
إن هذا الأمر ليس وليد الصدفة، ولا يندرج في خانة التصرف العفوي أو حتى في إطار الحزن على قتيلهم. إنه مشروع مدروس وممنهج يهدف إلى حث الأجيال الجديدة على الانخراط في مشروع الاستيطان على الأراضي اللبنانية، من خلال تربية أطفالهم على قصص مصورة مستوحاة من التوراة حول لبنان، مثل كتاب "ألون فلفنون" الذي يعرض شخصية خيالية لطفل يهودي يُسمى ألون يروي حلمه في لبنان. في هذا الكتاب، يحلم ألون بالتجول في جبال لبنان، بينما يستمهله والده قائلاً له إن هذه الجبال ليست لنا اليوم ولكنها ستصبح ملكاً لنا كما وعدنا الرب "يهوه".
هذا باختصار شديد محتوى الكتاب المُعد خصيصاً للأطفال، عدا عن غيره من الكتب التي تُغذي فيهم نزعة السيطرة على شعوب المنطقة، بما فيها لبنان. لذا ليس مفاجئاً أن يصبح شعار المنظمة هو "نجمة داوود تتوسطها الأرزة اللبنانية". كما ليس مفاجئاً أن نسمع تصريحات لأحد مسؤولي هذه المنظمة، "موشيه فيغلين" (عضو كنيست سابق)، الذي يقول: "إن الحد الشمالي للجليل ليس الخط المنصوص عليه في اتفاقية الهدنة، إنما هو نهر الليطاني الذي هو جزء من إسرائيل التاريخية…".
كما تعرض المنظمة خرائط لبنانية عليها أسماء عبرية لمستوطنات وهمية على الأراضي الجنوبية، حيث تروج لبيع المنازل هناك. كل هذه الأكاذيب تأتي في إطار التسويق الصهيوني لمملكة "إسرائيل الكبرى أو الموحدة أو التاريخية"، كما تشير إليها الآيات في سفر التكوين (15:18، 18:15-21، 11:24، 1:7، 3:25-28، يش 1:1-4، حزقيال 47:13-20).
وفي الحديث عن "إسرائيل الكبرى" التي يعتقد معظم اليهود الصهاينة بأنها حقيقة تاريخية، وليست من نسج الخيال كما يراها الكثير من علماء الآثار، في مقاربتين متناقضتين. إذ أن المقاربة الأولى تعتمد على روايات توراتية من دون أدلة حسية، بينما المقاربة الثانية تأخذ بعين الاعتبار المعثورات الأثرية والتي لا تتوافق مع رواية "إسرائيل الكبرى"، كما وردت في "سفر حزقيال" بحدودها التي تبدأ شمالاً من سوريا في حماه متجاوزة لبنان كله من وادي البقاع إلى ساحله وجباله حتى جبل حرمون فضلاً عن الأردن وأجزاء من كل من العراق ومصر والسعودية. هذه المملكة التي يتباهى بها قادة العدو، لاسيما وزير المال "بتسلئيل سموتريتش" الذي تحدث صراحة عن حدود "إسرائيل التوراتية"، والتي تترجم اليوم من خلال مشروع "الشرق الأوسط الجديد"، وعرّابه "نتانياهو" الذي يهدف من خلاله إلى السيطرة على المنطقة بإحدى الوسيلتين: إما عبر القوة العسكرية على غرار ما يحدث في غزة والضفة ولبنان وسوريا إذا اقتضى الأمر، وإما بالهيمنة الاقتصادية على باقي الدول العربية بغية إخضاعها. وفي كلتا الحالتين، فإن إنجاح المشروع لا يكتمل إلا من خلال نفوذ أمني واسع للكيان على المنطقة، مع إضافة ما يمكن تحصيله من أرصدة النفوذ الأمريكي في الدول العربية لصالح إسرائيل.
هذا الحلم التوراتي قد دغدغ فيما مضى قادة الحركة الصهيونية، حين بانت أولى مؤامراته ضد لبنان وسوريا تحديداً خلال مؤتمر باريس للسلام في العام 1919، حيث قدم الوفد الصهيوني مذكرة تفاهم عُرفت باسم اتفاقية "فيصل-وايزمان" مرفقة بخريطة للكيان الموعود تشمل لبنان الجنوبي باستثناء مدينة صيدا وجزءاً من البقاع الغربي فضلاً عن أجزاء أخرى من سوريا. حيث تم رفضها من قبل الفرنسيين لا لشيء سوى لأن البلدين يخضعان للانتداب الفرنسي، وما لبث أن تنصل منها لاحقاً الأمير فيصل الأول ابن الشريف حسين. وفي محاولة أخرى من قبل العدو الصهيوني لتمرير مخططه في السيطرة على أجزاء من لبنان، تكشف الوثائق عن مذكرة وجهها رئيس الوفد اللبناني الوزير السابق "فؤاد عمون" إلى وزارة الخارجية اللبنانية خلال مؤتمر لوزان (عُقد من قبل لجنة التوفيق بشأن فلسطين التابعة للأمم المتحدة UNCCP في العام 1949، حضرته بلدان مصر والأردن ولبنان وسوريا، والكيان الصهيوني) مفادها: "أن الوفد الصهيوني طالب بضم الأراضي اللبنانية الواقعة جنوب الليطاني إلى الكيان الغاصب، باعتبار أنها ضرورية لمخططه التنموي، مقابل عودة محدودة للاجئين الفلسطينيين المتواجدين في لبنان".
قد يطالعنا البعض أن المشروع الاستيطاني هذا بعيد المنال، ولا يعدو كونه مشروعاً وهمياً يتسلى به بعض المستوطنين، وبأن الأطماع الصهيونية في لبنان هي حبرٌ على ورق في صفحات التوراة. فإذا كان صحيحاً، لماذا حشد العدو ستة فرق على الحدود اللبنانية (36 - 91 – 98 – 99 – 146 – 210)؟ أي أكبر بكثير مما تحتاجه خطته المعلنة الهادفة إلى إنشاء "كوريدورحدودي" بعمق 4-5 كلم، وأكثر مما حشده خلال حرب تموز 2006 لتنفيذ هدفه بالوصول إلى نهر الليطاني؟ وأقل بحوالي الفرقتين من حجم القوات التي نفذت اجتياح العام 1982؟ وإذا كان صحيحاً أيضاً فلماذا هو بصدد تطوير هجومه إلى الليطاني؟ وربما إلى الأولي حتى بيروت إن لم يكن إلى البقاع؟ على غرار ما روّج له بالأمس أحد رؤساء الأحزاب اليمينية المسيحية، فبغض النظر عن نوايا العدو التوسعية، جاء خطاب هذا الزعيم من "معراب" في الوقت الذي تشن فيه "تل أبيب" حرباً وجودية ضد الكيان اللبناني برمته والطائفة الشيعية اللبنانية على وجه الخصوص، ليواكبها بهجوم من نوع آخر يندرج تحت عنوان "الإقصاء السياسي" لهذه الطائفة (تشكل 35% من نسيج المجتمع اللبناني)، وذلك عبر دعوته إلى "انقلاب برلماني" وعقد جلسة انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية من دون حضور النواب الشيعة.
وإذا أردنا استئصال النوايا المبيتة من هذه الدعوة، فهي دعوة جديدة لحرب أهلية. وإن فحوى خطابه السياسي بدا واضحاً للعيان، إذ أنه يتماهى مع مشروعي العدو الصهيوني في التهجير والاستيطان، ويتلاقى في الحرب الشاملة على الوجود الشيعي في لبنان مع ما يظلله من حركات لمقاومة الاحتلال... هذا إن لم يكن أصلاً من المؤمنين الداعين إلى تطبيق ما ورد في النص التوراتي حول حدود "إسرائيل الكبرى". وبالتالي، ما عليه سوى استعادة دور "حيرام" (1 ملوك 5، 19-20، 1 ملوك 18:6) فيقطع ويبيع ما تبقى من أرز الرب، لكن هذه المرة لليمين الصهيوني المتطرف في محاولته إعادة بناء "هيكل سليمان" المجهول الأثر، لقاء دخوله في "عنق زجاجة" مُجمعه الفئوي المنشود الذي لن يدخله الهواء إلا بقرار إسرائيلي.