عربيات ودوليات >أخبار دولية
المحكمة الجنائية الدولية وإلزامية قراراتها على المحك الأميركي - الإسرائيلي
المحكمة الجنائية الدولية وإلزامية قراراتها على المحك الأميركي - الإسرائيلي ‎الثلاثاء 26 11 2024 07:19
المحكمة الجنائية الدولية وإلزامية قراراتها على المحك الأميركي - الإسرائيلي


بعد نيّفٍ وسنة على بدء الحرب الصهيونية على غزة عقب عملية «طوفان الأقصى»، أقدمت المحكمة الجنائية الدولية على إصدار مذكرة توقيف بحق رئيس وزراء «إسرائيل» بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع المقال غالانت بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزة. كما أصدرت مذكرات مماثلة بحق أحد قادة حماس محمد الضيف والذي سبق وروّج الإعلام الصهيوني انه تم اغتياله في احدى العمليات العسكرية التي نفذها الجيش الصهيوني وبقي الخبر دون تأكيد.

ان المحكمة الجنائية الدولية التي وُضِعَ نظامها الأساسي قيد التنفيذ في الأول من تموز 2002 بعد توقيع 60 دولة على ميثاقها الأساسي الذي استمر النقاش حوله ٤ سنوات، حَفَظَتْ لنفسها النظر بجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية باستثناء جريمة العدوان بانتظار تحديد تعريف دولي لهذه الجريمة. أما الأفعال الجرمية التي تشكّل أركاناً مادية للجرائم الثلاث التي تنظر بها، فهي المحددة في (المادة 6) بالنسبة لجريمة الإبادة الجماعية، (والمادة 7) للجرائم ضد الإنسانية، (والمادة 8) بالنسبة لجريمة الحرب.

إن هذه المحكمة التي تتخذ مقراً دائماً لها في مدينة لاهاي الهولندية، تمارس اختصاصها على الأشخاص إزاء أشدّ الجرائم خطورة، ولها بموجب اتفاق خاص مع أية دولة منضمة الى نظامها الأساسي أن تمارس وظائفها وسلطاتها في إقليم تلك الدولة. كما أن هذه المحكمة ليست بديلاً عن المحاكم الوطنية، وإنما تكون ولايتها القضائية مكملة للولايات القضائية الجنائية الوطنية. وهي بالتالي تنظر في القضايا الجنائية الخطيرة عندما تحول ظروف دون المحاكم الوطنية النظر في مثل هذه الجرائم.
والمحكمة الجنائية الدولية، تتشكّل من دوائر أربع، دائرة الادّعاء العام والدائرة التمهيدية والدائرة الابتدائية والدائرة الاستئنافية. وإحالة القضايا التي تدخل في نطاق اختصاصها والمحددة في (المادة ٥) تتم عبر ثلاث طرق:
الأولى، إذا أحالت دولة طرف في المحكمة الى المدعي العام وفقاً (للمادة 14) حالة يبدو فيها ان جريمة أو أكثر من الجرائم المنصوص عنها في ( المادة 5) قد ارتكبت.
الثانية، إذا أحال مجلس الأمن، متصرفاً بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة حالة الى المدعي العام يبدو فيها ان جريمة من تلك المشار إليها في (المادة 5) قد ارتكبت.

الثالثة، إذا كان المدعي العام قد بدأ مباشرة تحقيق فيما يتعلق بجريمة من تلك المحددة في (المادة 5) ووفقاً لما نصت علية (المادة 15) من نظام المحكمة. والتي تنص فقرتها الأولى، على أنه يحق للمدعي أن يباشر التحقيقات من تلقاء نفسه على أساس المعلومات المتعلقة بجرائم تدخل في اختصاص المحكمة. وإذا استنتج المدعي العام، ان هناك أساساً معقولاً للشروع في إجراء تحقيق، يقدم طلباً الى الدائرة التمهيدية طلباً للاذن بإجراء تحقيق، مشفوعاً بأية مواد مؤيدة يجمعها ويجوز للمجني عليهم إجراء مرافعات لدى الدائرة التمهيدية وفقاً للقواعد الإجرائية وقواعد الإثبات. وإذا رأت الدائرة التمهيدية ان ثمة أساساً معقولاً للشروع في التحقيق وان القضية تدخل في اختصاص المحكمة، تعطي عندئذٍ الاذن بالتحقيق دون المساس بما تقرره المحكمة فيما بعد بشأن الاختصاص ومقبولية الدعوى.
بالنسبة للقضية المطروحة وهي ارتكاب «إسرائيل» لجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجريمة الإبادة الجماعية، فإن التحقيق بها يتم اما عبر طلب من دولة فلسطين مرفوع الى المدعي العام وهي طرف منضم الى نظام المحكمة واما بناء على اقدام المدعي العام على مباشرة تحقيق استناداً الى معلومات توفرت لديه حول جرائم تدخل في اختصاص المحكمة. وبالنظر الى الوقائع الجرمية التي حصلت في غزة، فإن واحدة منها تكفي لتشكّل ركناً مادياً من أركان الجريمة والتي نصت عليهما المادتان (6 و7 ) ومنها على سبيل المثال لا الحصر قتل المدنيين وتعذيب الأسرى والمعتقلين والإخفاء القسري والتعذيب المادي والنفسي وتدمير الأعيان الثقافية والدينية والتربوية واستهداف الهيئات التي تمارس عملها في أوقات الحروب وهي محمية بالمواثيق التي تنظم عملها، فكيف إذا كان كل ما ورد في المواد 6 و7 و8 قد شكّل جرائم مشهودة وليس بإمكان أحد إخفائها؟

كما أنه من الناحية القانونية، لا أهمية لرفض «إسرائيل» لقرار المحكمة. أولاً، لانها ليست منضمة الى نظامها الأساسي، وثانياً، لانها ليست ذات سيادة قانونية على غزة والضفة الغربية لان المركز القانوني لوضعها في هاتين المنطقتين يحكمه واقع السلطة القائمة بالاحتلال، وهي تخضع لأحكام القرارين 242 و338 اللذين ينصان على انسحاب «إسرائيل» من الأراضي المحتلة.
إن عدم انضمامها الى المحكمة وعدم التصديق على نظامها الأساسي يجعلها بحلّ من الالتزام بتنفيذ قرارات المحكمة، إلّا إذا تم التنفيذ بقرار من مجلس الأمن بموجب الفصل السابع، وهذا غير ممكن في ظل الواقع السائد حالياً في مجلس الأمن حيث أميركا تشهر دائماً سلاح حق النقض تجاه أي قرار يمسّ «إسرائيل» سياسياً وقضائياً واقتصادياً. إلّا ان هذا لا يحول دون الدول المنضمة الى نظام المحكمة من تنفيذ قراراتها سواء تلك التي تصدرها الغرفة التمهيدية كهيئة تحقيق واتهام أو تلك التي تصدرها المحكمة بغرفتيها الابتدائية والاستئنافية كهيئتي حكم.

إن المحكمة الجنائية الدولية أصدرت عبر غرفتها التمهيدية مذكرة إلقاء قبض بحق نتنياهو وغالانت، وهذه المذكرة تمّت بناء على إحالة من المدعي العام الذي ثبت له من خلال المعلومات التي توفّرت له ان جرائم من تلك التي نصت عليها (المادة ٥) قد حصلت في غزة. وعليه أصدرت الهيئة التمهيدية مذكرة توقيف بحق رئيس وزراء «إسرائيل» ووزير الدفاع السابق غالانت، لاقتناعها بوجود أسباب معقولة بأن الشخصين قد ارتكبا جريمة تدخل في اختصاص المحكمة، وان إلقاء القبض عليهما يبدو ضرورياً لضمان حضورهما أمام المحكمة، ولعدم قيامها بعرقلة التحقيق أو اجراءات المحاكمة أو تعريضها للخطر ولمنعهما من الاستمرار في ارتكاب الجرائم التي تم الشروع بالتحقيق فيها، ولمنع ارتكاب جرائم ذات صلة بالجرائم المرتكبة وتدخل في اختصاص المحكمة وتنشأ عن الظروف ذاتها، ( المادة 58 ) من نظام المحكمة.

والهيئة التمهيدية التي تصدر مذكرة توقيف أو إلقاء قبض بناء على إحالة من المدعي العام، يصبح قرارها ملزماً للتنفيذ من قبل الدول الأطراف في المحكمة لأجل سوق المتهم للمثول أمام المحكمة وإخضاعه لمحاكمة عادلة.
بطبيعة الحال ان الاتهام لا يعني الإدانة، فالقاعدة القانونية تنص على ان المتهم بريء حتى تثبت ادانته، والحكم بالادانة أو بالبراءة تصدره المحكمة عن احدى غرفتيها الابتدائية أو الاستئنافية. وحتى هذه اللحظة فإن نتنياهو وغالانت هما متهمان وليس مدانيين ، وهو ما يتوقف على اجراءات المحاكمة التي ستحصل.

ان أهمية هذا الإجراء، انه فتح مساراً لمقاضاة المسؤولين الصهاينة عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في غزة وتلك التي ترتكب في لبنان، علماً ان لبنان ليس طرفاً في هذه المحكمة لانه لم ينضم إليها ولم يصادق على نظامها الأساسي.

وهذا المسار القضائي الذي بدأ التأسيس له في المحكمة الجنائية الدولية عبر إصدار قرار اتهامي عن الهيئة التمهيدية وسطّرت بالاستناد إليه مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت يكمل بمفاعيله المسار الذي بدأ التأسيس له في محكمة العدل الدولية التي وضعت يدها على ملف قضية جريمة الإبادة الجماعية وقد أصدرت حتى تاريخه أكثر من قرار وفيها إدانة واضحة «لإسرائيل» لارتكابها جريمة إبادة جماعية ولم تتخذ الاجراءات الاحترازية التي تحول وارتكاب هذه الجريمة.

ان الأهمية التي تنطوي عليها عملية صدور قرار اتهامي وبالتالي تسيطر مذكرتي توقيف بحق نتنياهو وغالانت، هو أنها ستبقي كلا المتهمين موضع ملاحقة سواء مثلا أمام المحاكمة أو لم يمثلا، وهذا سيبقى سيفاً مسلّطاً على رقابهما وعلى آخرين قد يطالهم التحقيق والاتهام سواء كانوا في السلطة السياسية أو العسكرية، لان الجرائم التي ينعقد الاختصاص بها للمحكمة الجنائية الدولية لا تسقط بالتقادم.
كما ان الأهمية التي ينطوي عليها نظام المحكمة، تكمن في كون إختصاصها وإن كان ينحصر بملاحقة الأشخاص الطبيعيين وليس الكيانات المعنوية، فإن الأشخاص الذين يلاحقون سواء كانوا متهمين أو مدانين، لا تسبغ عليهم أية حماية دستورية أو قانونية. وبالتالي فإن الأشخاص الذين يصبحون قيد الملاحقة لما هو منسوب إليهم من أعمال جرمية، لا يستفيدون من أية حصانات دستورية أو قانونية تكون ممنوحة لهم في نظام الدولة القضائي، وبالتالي فإن الملاحقة بحقهم لا يحول دونها، أية دفوع شكلية تتعلق بتلك بالحصانات الممنوحة لهم في إطار مسؤولياتهم مهما بلغ علوَ شأنها.

وتبقى مسألتان: الأولى، مدى التزام الدول المنضمة الى نظام المحكمة في تنفيذ قراراتها، والثانية، في قوة التنفيذ الجبري لقراراتها.
بالنسبة للأولى، ان نظام المحكمة ينص على إلزامية تنفيذ قراراتها من جانب الدول المنضمة إليها. وعليه يجب على كل دولة طرف فيها، أن تنفذ مذكرة التوقيف الصادرة عن غرفة المحكمة المختصة حالما وطأت من صدرت مذكرة التوقيف بحقه اقدام تلك الدولة. أما إذا لم تقدم الدولة الطرف على تنفيذ قرار المحكمة، فتكون بذلك قد أخلت بالتزامها بميثاق المحكمة، وهو ميثاق دولي يتقدم في تراتبيته على القوانين الوطنية. وما أكثر الحالات التي أبدت فيها كثير من الدول وللأسف عدم التزامها بالمواثيق الدولية، ولا إمكانية لاتخاذ اجراءات عقابية بحقها. وهنا يبرز التأثير السياسي على مسار عمل المحكمة.

وأما بالنسبة للثانية، فان الأحكام التي تصدرها المحكمة بالإدانة لا تأخذ طريقها للتنفيذ الجبري إلّا بقرار من مجلس الأمن الدولي بموجب الفصل السابع، وهو غير الممكن حالياً في ظل الواقع السائد في مجلس الأمن.
لكن رغم كل ذلك، سواء أحجمت بعض الدول الأطراف في المحكمة عن تنفيذ مذكرات توقيف استناداً الى قرار اتهامي أو حالت الظروف السائدة في مجلس الأمن من التنفيذ الجبري للأحكام القضائية بالإدانة، فإن قرارات الاتهام وقرارات الإدانة ولو لم تنفذ وذلك لأسباب سياسية، إلّا انها تبقى تحافظ على قيمتها المعنوية والاعتبارية، لان الملاحقين بالاتهام والإدانة سيبقون دائماً تحت تأثير أحكام العدالة الإنسانية التي تسبغ حمايتها على ضحايا جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية.

كما إن تأثير ووقع قرار المحكمة وأهميته إنما يقرأ من خلال رد الفعل الأميركي الهستيري، كما رد الفعل عند كافة الأطراف السياسية في الكيان الصهيوني، من هو في موقع السلطة ومن هو في موقع المعارضة، حيث ظهر إجماع سياسي على رفضه ومقاومته لا يوازيه سوى رفضهم الاعتراف بحق شعب فلسطين في تقرير المصير. وعليه فإن المواجهة مع الكيان الصهيوني في الميدان القضائي هي جزء من المواجهة الشاملة التي تخاض ضده على الصعد العسكرية والسياسية والتعبوية. وعلى الدول العربية التي ما زالت محجمة عن الانضمام الى نظام المحكمة أن تبادر فوراً للتصديق عل نظامها وبالموازاة نفسها الانضمام الى دعوى مقاضاة «إسرائيل» بجرم الإبادة الجماعية التي تقدمت بها دولة جنوب إفريقيا.

المصدر : جريدة اللواء - المحامي حسن بيان