مقالات مختارة >مقالات مختارة
المسؤولية القانونية عن الأخطاء الطبيّة
الأربعاء 18 12 2024 08:29جنوبيات
يُعتبر الطبّ رسالة إنسانيّة تهدف الى المحافظة على صحة الإنسان الجسديّة، وقائياً وعلاجياً، والتخفيف من آلامه ومعاناته، إلّا أن تلك المهنة السامية ممكن أن تعكس أحياناً بعض الأخطاء التي تؤثر سلباً على المرء. يتمحوَر الخطأ الطبيّ حول فعل غير مقصود أثناء العناية بالمريض، ينتُج عنهُ ضرَر، كان من الممكن للطبيب أو المُمَرّض تفاديه، لذا يبقى البحث عن خطأ الطبيب أو معاونيه في غاية الدقّة كون تدخّلهم في جسم المريض يرتكز على هدف سليم وحُسِن نيّة. تظهر الجراحة كأحد الفروع الطبيّة التي يكثرُ فيها الكلام عن المسؤولية بمختلف أشكالها خلال مراحلها الثلاث وهي: مرحلة الفحص والأعداد للجراحة، ثُمَ مرحلة تنفيذ العمل الطبّي وصولاً الى مهمة الإشراف على تعافي المريض ومتابعته. يلتزم الطبيب تجاه الشخص العليل بِبَذل العناية اللازمة إبّانَ فترة المعالجة أو عند إجراء العملية وتُعْلَن مسؤوليته إذا لم يتّخذ الاحتياطات اللازمة قبل وأثناء هذه الاجراءات.
على صعيدٍ متّصل، نصّت المادة 27 من قانون الآداب الطبيّة اللبناني في بندها الثاني على أنه إذا قبِل الطبيب متابعة المريض، يُلزم بتأمين استمرار معالجته بنفسه أم بالتعاون مع شخص مؤهّل وذلك بكل دقّة وضمير حيّ ووفقاً لأحدث المعطيات العلمية التي ينبغي أن يتابع تطوّرها. تجدُر الإشارة إلى أن الطبيب بحسب المادة 28، يخضع لموجب وسيلة في المفهوم القانوني، أي أنه لا يلتزم بنتيجة معيّنة أثناء العلاج، بل يتعهّد ببذل العناية المطلوبة لشفاء المريض، إلّا أن بعض الحالات تجعَل الطبيب ملتزِماً بتحقيق نتيجة معيّنة مثل تحديد المُعالِج موعداً معيّناً للكشف على مريضه أو لإجراء عملية جراحيّة أو التأكيد على منع انتقال العدوى إليه، فإذا تخلّف الطبيب عن ذلك، تحمّلَ مسؤولية الضرر اللاحق بمريضه ما لم يُثبِت وجود قوة قاهرة أو أسباب خارجيّة غيْر متوقعة، لم يتمكن من دفعِها. وفي ما يختصّ بالجراحة التجميليّة، يُلاحظ أن القانون اللبناني لم يُفرّق في توصيف الموجبات المكوِّنة للمسؤولية بين طبيب تجميل وغيره من الأطباء، فعملهُ يستند الى موجب وسيلة، ولا تترتب عليه أي تبِعة لعدم بلوغ الغاية المرجوّة تجميلياً، بخاصةٍ إذا قام بالتشخيص الصحيح ولجأ الى المعدات الحديثة والمناسبة خلال العمليّة.
لتبْيان الخطأ الطبّي، يجب دراسة سلوك الطبيب وتحليل الظروف الخارجية والإمكانات المادية التي توافرت عند إجراء العملية. عندئذٍ، يُسأل الطبيب الجرّاح، عن كل تقصير كان بإمكانه تفاديه ولتلك الأخطاء أشكالٌ عدة أهمها، الإهمال وعدم الانتباه حيثُ لا يلتزم الفاعل بإجراءات الحذر والسلامة عند القيام بالواجبات الطبيّة، كما يأتي عدم التبصُّر كأحد تلك الصوَر التي تستند على عدم الدِراية بتبِعات فعلهِ المتزامن مع نقص المهارة، بالإضافة الى الخطأ في المفاهيم الطبيّة والتشخيص ما يُخرج الطبيب عن الوجهة السليمة أثناء تنفيذ الجراحة. لذلك من واجب المعالِج أخذ موافقة المريض أو من يمثله قانونياً قبل إجراء العملية، ودراسة أهداف تلك الجراحة والنتائج المحتملة لها، كما يجب على الطبيب استخدام الطرق الحديثة في الفحص لمعرفة حالة المريض ونوع العمل الجراحي قُبَيْل القيام بذلك الإجراء. والجدير بالذكر، أن الاجتهاد الحديث أكّد على استقلالية طبيب التخدير عن الجرّاح عند إجراء العمليّة ومسؤوليته عن أي خطأ يستند على طبيعة وكمية المُخدِّر المستعمل أو مضاعفاته الجانبية. أما بالنسبة إلى مفهوم المجازَفة غير المبررة طبيّاً، فقد اعتبرت المَحاكم الفرنسية واللبنانية أنها تأتي ضمن أنواع الاهمال، وبالتالي إنَّ المضاعفات الخطيرة التي تظهر عند الولادة مثلاً، نتيجة إصرار الطبيب على التوليد بشكلٍ طبيعي وعدم إدخال الحامل الى عملية قيْصريّة دون مبرِّر، تُشكّل خطأ يدفع بالمعالِج الى تحمُّل المسؤولية. إذاً تكون المجازفة غير جائزة في العمل الطبي إلّا في الحالات القصوى حيث تصبح الأمل الوحيد لشفاء المريض.
من الناحية القانونية، لا يوجد نص في الأنظمة اللبنانية يحدّد المسؤولية الجزائية للأطباء، لذا تٌطَبّق القواعد العامة المتعلقة بجرائم التسبب بالإيذاء أو بالوفاة إذا كان الجرم نتيجة خطأ طبيّ وقد أتى عن عدم إدراك لعواقب الأفعال. وتلك المفاهيم تتجلّى في المادة 186 من قانون العقوبات التي تنص على أنه لا يُعَدّ جريمة، الفعل الذي يجيزه القانون مثل العمليات والعلاجات الطبيّة شرط أن تكون موافِقة للمعايير وأن تجري برضى المريض، إلّا أن فعِل الطبيب يُعتبر سلوكاً جرمياً بحسب المواد 564 و565 من قانون العقوبات، في حال إيذاء الشخص العليل أو التسبب بوفاته عن إهمال أو قلّة احتراز. من ناحيةٍ أخرى، يمكن ملاحقة الطبيب دون التطرق الى الأصول الجزائية، والمطالبة فقط بتعويض عن الأضرار التي تسبب بها من خلال دعوى المسؤولية أمام المحاكم المدنية إستناداً الى مواد التبعة العقديّة أو التقصيريّة من قانون الموجبات والعقود التي تنص على شرعية التعويض إذا تمنّع الطبيب عن القيام بواجباته أو إذا توافر خطأ ما أدّى الى ضرر أكيد ومباشر بالعليل، شرط إثبات العلاقة السببيّة بينهما. أما بالنسبة الى وسائل الإثبات، فيستطيع القاضي الاستعانة بالخبرة الطبيّة اللازمة بهدف إعادة تكوين الظروف الواقعية لموضوع الدعوى وتقدير توافر الخطأ مع الإبقاء على وسائل الإثبات الأخرى التي يتقدّم بها المتضرّر كالشهادة والقرائن.
في سياقٍ آخر، تظهر مسؤولية المراكز الصحيّة كأحد الفروع المتعلقة بموضوع البحث، فالمؤسسة الطبيّة ترتبط بالمريض عبر عقود ضُمنيّة الى حدٍّ ما، يكون موضوعها تأمين الإيواء والرعاية الى حين انتهاء العلاج. تخضع للمسؤوليّة المدنيّة الحوادث المتعلقة بالإيواء مثل عيوب وجبات الغذاء المقدّمة أو أي عُطِل في تجهيزات وهندسة البناء، يؤدّي الى إلحاق الضرر بالشخص، ويُسأل المَشفى في الحالة الأخيرة وفقاً للتبعة الوضعية دون الحاجة الى إثبات الخطأ. من جانبٍ آخر، يشتمل عقد الرعاية على عدة موجبات تعكُس مسؤولية المستشفى في حال عدم الإلتزام بها، وهي توفير المواد والتجهيزات الطبيّة وتأمين طاقم مُعاِلج متخصّص، بالإضافة الى متابعة المريض خلال فترة إيوائه في المركز. كذلك، تتحمّل المؤسسة الطبيّة كشخص معنوي، نتائج الأخطاء المِرفقيّة لموظفيها الخاضعين لسلطتها ومراقبتها.
إذاً تبدو مسؤولية الطبيب عن أخطائه المهنيّة دقيقة جداً، وكذلك الأمر لجهة مسؤولية الفريق المعاون والمؤسسة الصحيّة أثناء الرعاية. بالمقابل، يستند العمل الطبّي على مبادئ حسن النيّة والرغبة في شفاء المريض، مقدّماً أبهى مظاهر التدخُّل الإنساني، إلّا أنهُ لا بد من تكثيف الجهود بين القطاعيْن القانوني والطبّي من أجل وضع أُسُس لإثبات الأخطاء الطبيّة وتحقيق العدالة عبر اعتماد قواعد علميّة متطوّرة تساعد في الوصول الى الحقيقة بشكلٍ أسهل، ليأخُذ كل ذي حقٍ حقهُ.