بأقلامهم >بأقلامهم
جوزاف عون.. و"جمهورية القبضايات"!
جوزاف عون.. و"جمهورية القبضايات"! ‎الثلاثاء 14 01 2025 17:52 حياة الحريري
جوزاف عون.. و"جمهورية القبضايات"!

جنوبيات

لم تكن انتخابات فخامة الرئيس جوزاف عون لسدة الرئاسة تشبه غيرها في الشكل وفي المضمون. فلأوّل مرة ربما، يلتقي التوافق أو بالأصح، تجد الوصاية العربية والدولية إجماعاً وترحيباً شبه كاملين من معظم اللبنانيين ليقينهم بأن الطبقة السياسية الحالية تفتقد للمسؤولية الوطنية لإتمام الإستحقاق الرئاسي، والشواهد كثيرة بدءاً من الفشل في انتخاب الرئيس لأكثر من سنتين، وليس انتهاءاً بالانهيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي المُمنهج.

وكما في عمليّة الانتخاب نفسها كذلك في خطاب القسم، فقد شكّل الأخير نقطة إجماع شعبية داخلية ورسمية (ولو في الإعلام) وعربيّة ودوليّة لم يشهدها التاريخ اللبناني، منذ عهد الرئيس فؤاد شهاب، وهي نقطة تُحسب لرئيس الجمهورية في بداية عهده وبالطبع تُحمّله ربما أكثر ممّا يحتمل الموقع بصلاحياته المحدودة كما المدّة الزمنية للحكم. ويُشكّل خطاب القسم مشروعاً بحدّ ذاته لبناء دولة حقيقية تحتاج بالطبع إلى إرادة يملكها رئيس الجمهورية نفسه، وهو الذي أثبت نجاحه في الحفاظ على المؤسسة العسكرية وحماها من عدوى السياسة اللبنانية في أصعب الظروف التي عرفها لبنان. لكنها أيضاً، تحتاج إلى وجود سلطة تنفيذية تلتزم بالقسم وتعمل على تطبيقه، وهو ما لا يتوافر في الوقت الحالي للأسف. ومن أجل البناء للمرحلة المقبلة، لا بدّ من البدء من علّة العلّة، وهو الفشل في تطبيق الدستور أو وثيقة الوفاق الوطني، أي اتفاق الطائف. ففي العام ١٩٨٩، أنهى اتفاق الطائف، كما هو معلوم الحرب الأهلية، وشكّل بداية لما عرف لاحقاً بعهد السلام والإعمار حيث لعب الرئيس الشهيد رفيق الحريري الدور الرئيسي فيه بدعم عربيّ ودوليّ. غير أن الطائف لم ينهِ الحرب فعليّاً، بل وربما تمّ ضربه منذ بدايته، وإن صمد نسبيّاً بفعل القرار الدولي الذي لا يسمح بسقوط لبنان نهائياً وإنما بالموت السريريّ مع بعض جرعات الإنعاش كما حدث في السنوات القليلة الماضية. عندما أقرّ الطائف، لم يقم العهد الجديد آنذاك برعاته الخارجيين وقادته الجدد اللبنانيين بالمحاسبة والمراجعة المطلوبتين وصولاً إلى المصالحة الحقيقية لمرحلة الحرب الأهلية كخطوة ضرورية لانطلاقة العهد الجديد التي ترافقت مع حملة إعلامية ترويجية ضخمة، وهي محاسبة للمجموعات التي شاركت في الحرب الأهلية قبل إعادة تأهيلها ودمجها، ومصارحة ومراجعة إلزامية لشرائح المجتمع كافة حول ما حدث طيلة ١٥ عاماً.

من هنا، فقد أصيب دستور ما بعد الحرب بنكسة بنيوية، وخطورة هذا الأمر لا تقتصر على العلاقة بين المجموعات والأحزاب السياسية والطائفية القائمة والتي تتفق فيما بينها على المحاصصة والمكاسب الفئوية، بل هي تؤثّر بشكل جوهريّ على العلاقة بين جمهور هذه الأحزاب والمجموعات. وعلى الرغم من كل حفلات الوحدة الوطنية التي عرفها لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية وبعد كل اقتتال داخليّ، وكل جرعات الإنعاش التي تمّ ضخّها على مدى عقود، ما تزال الذاكرة الجمعية اللبنانية عالقة في ثقافة حقبة الخمس عشرة سنة، أي ثقافة الحرب الأهلية التي ما نزال نعيش تبعاتها وفصولها حتى يومنا هذا، في ظلّ إمساك من شاركوا في الحرب الأهلية وكل الأحزاب التي أنتجتها حقبة التسعينيات وصولاً إلى يومنا هذا، بمفاصل الدولة على أساس المحاصصة عبر المؤسسات الأمنية والقضائية والمالية والتربوية والتنموية والحكومية والاجتماعية والثقافية والإعلامية والاقتصادية والصحية وغيرها، حتى وصلنا إلى فساد غير مسبوق في مرحلة ما بعد الـ٢٠٠٥ أدى إلى الانهيار الممنهج الذي يعاني منه لبنان اليوم.

وسط كل هذا الفشل، نشأ جيلٌ كاملٌ في لبنان تائه بهويّته الوطنية باستثناء الشعارات والأغاني الوطنية التي يُردّدها اللبنانيون بعد كل حدث أو اقتتال أو حرب أو ربما احتفال؛ جيلٌ لم يعرف من كتاب التاريخ إلا الأمير فخرالدين وجمال باشا واستقلال العام ١٩٤٣، ونشأ على ذاكرة جيل آخر عاش بين المتاريس وما يزال يبحث عن هويّته، حيث كلّ متراس لطائفة أو مجموعة تعتقد أنها كانت على حقّ، حتى أصبحنا عند كل استحقاق أو قضية نتصارع حول مفاهيم يجب أن تكون بديهية بحكم الدستور بصيغتيه الأولى (١٩٤٣) والثانية (١٩٨٩)، مثل الهويّة وموقع لبنان وتعريف الوطنية من خلال متاريس بأشكال جديدة ومتعددة وتمتدّ إلى محاور خارج حدود الوطن، باسم الوطن نفسه. هذا الفشل أحدث تشوّها في طبيعة الحياة السياسية في لبنان بين الأحزاب وجماهيرها، حيث انعكس بجزء منه من خلال اللغة المستخدمة في الخطاب السياسي وعلى المنابر الإعلامية بين السياسيين أنفسهم، لتمتدّ لاحقاً إلى نقاشات اللبنانيين بين بعضهم البعض من مناصرين لأحزاب أو مجموعات مستقلّة إن وجدت. فلا حياة سياسية وحزبية في لبنان، ولا منافسة على البرامج والخطط، بل تراشق سياسيّ إعلاميّ مستمرّ منذ سنوات وهو يعتمد على اللغة التخوينية، أو بالحدّ الأدنى لغة فوقية في التعاطي وفي استسهال تصنيف الناس بين سياديّ أو مرتهن أو حرّ. هذه اللغة باتت قاعدة في نقاشات الشباب اللبناني في تعبيرهم عن تأييدهم لخط سياسي أو لزعيم، وهي تعيدني بالذاكرة إلى ظاهرة القبضايات التي طبعت الحياة السياسية اللبنانية، والتي اتخذت أشكالاً عدة منذ بداية انتشارها في عهد العثمانيين.

ففي عهد الحكم العثماني، كان “القبضاي” عبارة عن شخص يتّسم بالنبل ويُقدّره الناس، وعادة ما كان يُعرف القبضاي من لباسه، وتكون مهمّته حماية الناس. ومع تفعيل الحياة السياسية اللبنانية بحيث بات الزعماء أو العائلات التقليدية وغير التقليدية لاحقاً تتنافس على السلطة والحكم من خلال الانتخابات، تبدّلت المهام، ليصبح القبضاي هو المفتاح الإنتخابي للزعيم، بحيث تكون مهمّته استقطاب الناس والدفاع عن زعيمه في مقابل الحصول على الحماية وبعض الامتيازات والمنافع المادية والمعنوية.[1] ومنذ ذلك الحين، تحوّلت عملية التعبير عن مناصرة الزعيم والعمل على استقطاب المؤيّدين له إلى مواجهات مسلّحة أحياناً في الشارع اللبناني. ولعلّ أبرز مثال على ذلك هو ما حدث في انتخابات جمعية المقاصد في العام ١٩٧٠ حيث انتشر قبضايات الزعماء المتنافسين في الشوارع بأسلحتهم ضد بعضهم البعض حتى كادت أن تؤدي إلى أزمة حكم وطنية[2]. اليوم، تنتشر ظاهرة القبضايات رقميّا وعلى المنابر الإعلامية، حيث تسود ثقافة التخوين والشماتة والاتهامات المتبادلة في التعبير عن الرأي وفي الدفاع عن الخيارات السياسية أو عن الزعماء والقيادات، وهي مسؤولية تتحمّلها الطبقة السياسية القديمة والجديدة مجتمعة لدورها الأساسيّ في إضعاف مؤسسات الدولة حدّ ضربها في كل القطاعات وعلى رأسها القضاء والقطاع التربوي، في مقابل تعزيز ثقافة المحاصصة والمصالح الضيقة والزبائنية في الدولة. هذا الواقع يقودنا إلى ضرورة إعادة تشكيل الهويّة الوطنية الجامعة، أي الانتماء لمؤسسة الدولة، أي للوطن قبل الطائفة والمجموعة والزعيم، وذلك من خلال خطوات أوليّة ضرورية.

ففي خطاب قسمه، قال الرئيس جوزاف عون: "عهدي أن نستثمر في العلم، ثمّ العلم، ثمّ العلم"، والعلم لا ينتج مجتمعا سويّاً عبر الحصول على شهادة فقط في المدرسة والجامعة والمعهد، بل بتوظيفها في كل قطاعات الدولة التي تؤثّر على كل تفصيل في حياتنا من خلال رؤية قابلة للتطبيق تبدأ بإعادة النظر بالنظام التعليمي اللبناني، بتصحيح الخلل فيه وبتطويره ليتماشى مع متطلّبات أسواق العمل العالمية، ومن خلال إشراك الشباب في الحوار والقرار مع المسؤولين في الدولة في القطاعات الحياتية والمنتجة، وفي خلق فرص العمل لهم وفي خلق بنية تحتية لاحتواء الطاقات، وفي التنشئة المدنية الصحيحة والعسكرية التي تعيد ثقافة الانضباط والالتزام والانتماء للوطن. وقد ذكّرنا الرئيس عون في خطابه أنه الرئيس الأول للجمهورية بعد مئوية لبنان الكبير. وعلى الرغم من المحطات المضيئة الكثيرة التي عرفها اللبنانيون في ميادين مختلفة، فإن لبنان الكبير أثبت فشله كدولة على مدى عقود. واليوم، ثمّة فرصة تاريخية لإعادة تصحيح هذا الفشل من خلال البناء على التجارب السابقة، وهي إن كانت مهمّة شائكة وصعبة جداً لكنها غير مستحيلة إذا ما توافر القرار والإرادة أولاً، والخطط اللازمة القابلة للتطبيق. ربما حينئذٍ، يمكن تحويل ثقافة القبضايات التي تهيمن على الحياة السياسية في لبنان، إلى ثقافة قائمة على المنافسة على المشاريع والبرامج التي تبني دولة بكل ما للكلمة من معنى بعيداً عن الارتهانات الداخلية والخارجية؛ عندها يصحّ قول فخامة الرئيس في قسمه: “حان الوقت لنرى لبنان يستثمر في علاقاته الخارجية، بدلاً من أن يراهن البعض على الخارج للاستقواء على بعضنا البعض”.

المصدر : موقع 180