بأقلامهم >بأقلامهم
نوّاف سلام وتأليف الحكومة.. بين العرف والحاجة الوطنية
نوّاف سلام وتأليف الحكومة.. بين العرف والحاجة الوطنية ‎الثلاثاء 28 01 2025 08:27 حياة الحريري
نوّاف سلام وتأليف الحكومة.. بين العرف والحاجة الوطنية

جنوبيات

السؤال الأبرز الذي يجب أن نسأله اليوم هو الآتي: الحكومة في لبنان، هل هي عبارة عن مؤسسة رسمية دستورية أم أنها مجلس طوائفي لتقاسم السلطة على أساس المحاصصة؟

لبنان ما يزال يُدار بالعقلية الطائفية ليس فقط على مستوى ضرورة التمثيل الطائفي في المناصب، لكن أيضاً على قاعدة أن مؤسسات الدولة، بالنسبة لمعظم التيارات والأحزاب السياسية، كما جماهيرها، عبارةٌ عن وسيلة للمنفعة المتبادلة بين الزعماء من جهة لإحكام سلطتهم ونفوذهم على جماهيرهم وبين ولاء الجماهير من جهة أخرى ممن يجدون في الدولة وسيلة للحصول على الخدمات من خلال ممر الزعيم الذي يُقدّم لهم حمايةً وفرصةً وظيفيةً مقابل الولاء ثم الولاء.

هذه العلاقة لم تفزرها بالطبع الحرب الأهلية بل هي بدأت منذ عهد السلطنة العثمانية عندما عمد الحكام العثمانيون إلى تعيين أو انتداب أشخاص في المناطق يتمتعون بالامتيازات الاقتصادية والاجتماعية ليكونوا صلة الوصل بينهم وبين المواطنين. ومع الوقت، تحوّل هؤلاء الأشخاص، إلى مشاريع زعماء استغلتهم السلطات المتعاقبة منذ الانتداب الفرنسي الذي عمل على تقوية هذه العلاقة الملتوية بين المجتمع والدولة وصولاً إلى لحظة ما تُسمى “الجمهورية الثانية”.

نصّ اتفاق الطائف الذي وُلدَ في العام 1989، والذي يُعتبر أساس الدستور اللبناني الجديد، على آلية لإلغاء الطائفية السياسية وعلى وضع قانون انتخاب خارج القيد الطائفي، إلا أنه وفي الوقت نفسه لم يُحدّد أي مهلة زمنية أو آلية واضحة لكيفية إلغاء الطائفية واختيار النواب خارج القيد الطائفي. لذلك، هو نصّ في الفقرة (٥) في بند “الإصلاحات السياسية” على أنه “إلى أن يضع مجلس النواب قانون انتخابات خارج القيد الطائفي، تُوزع المقاعد النيابية وفقا للقواعد الآتية: أ- بالتساوي بين المسلمين والمسيحيين. ب- نسبيا بين طوائف كل من الفريقين. ج- نسبيا بين المناطق”.

وللمفارقة، يتحدث الزعماء والنواب والسياسيون باستمرار عن إلغاء الطائفية السياسية وعن ضرورة تمثيل الكفاءات في الدولة واعتماد المداورة في التعيينات منذ سنوات طويلة. غير أنهم في الوقت نفسه، يرفضون البدء بأي خطوات لتنفيذ ما نصّ عليه اتفاق الطائف الذي ما ينفكون يعلنون التمسّك فقط إعلامياً، وذلك بذريعة الاستهداف السياسي أو الوجودي الطائفي أو ما يعرف على الطريقة اللبنانية بـ”متطلبات المرحلة” و”الواقعية السياسية”. بالإضافة إلى منعهم تطبيق الدستور واحترام مؤسسات الدولة، فإن العقلية الزبائنية البعيدة عن ثقافة الدولة تتجسد في قيام الزعماء السياسيين بفرض وزراء لا يتمتعون بالكفاءة اللازمة أو بالأمانة تجاه المصلحة العامة والمال العام، ويقومون بحمايتهم من خلال تكريس سلطتهم في الوزارات علناً أو في الظلّ، ويمنعون مساءلتهم أو محاسبتهم حدّ التهديد بالسلم الأهلي ودائماً تحت عنوان “الوجود” و”الطائفة” إلى درجة أن معادلة ٦و٦ مكرّر باتت مرفوضة من قبلهم. وهكذا، أصبحت كل وزارة في الدولة اللبنانية هي عبارة عن “دولة عميقة” لهذه الطائفة أو تلك وممنوع المسُّ بها تحت عنوان “الميثاقية” وعدالة التمثيل” إلخ..

من خلال هذا المشهد، يخوض الرئيس المكلّف نواف سلام “معركة” تشكيل الحكومة الجديدة، أو مجلس الطوائف، وسط أخبار متناقضة حول صعوبة التشكيل وتسريبات متناقضة لأسماء مرشّحين إما تحوم عليها علامات استفهام حول الكفاءة والنزاهة أو أنها تكرّس فكرة “موظف الظلّ” لوزراء الدولة العميقة القدامى الذين ما يزالون يُمسكون عمليّا بمعظم مؤسسات الدولة.

يخضع مسار تشكيل الحكومات في لبنان ما بعد اتفاق الطائف إلى ضرورة الأخذ بالاعتبار تمثيل الطوائف تبعاً لمعايير متعددة، بينها التوازن أو التساوي السياسي النسبي بين الطوائف، نعني هنا تحديداً الموارنة والسنة والشيعة، وذلك من خلال التمثيل المتساوي بينها.

هذا العرف على الطريقة اللبنانية في مقاربة الدستور يطرح إشكالية دائمة حول قرارات مجلس الوزراء، إذ يُقدّم كلُ وزير الانتماء الحزبي والطائفي قبل المصلحة العامة، ويعمل على تطويع هذه المصلحة بما يتناسب مع مصالح طائفته وتحديداً القيّمين عليها.

وينصّ اتفاق الطائف على أن مجلس الوزراء يتخذ القرارات مُجتمعاً، وبما أن هذا المجلس هو عبارة عن مجلس طوائف، فإنه ومنذ انتهاء الحرب الأهلية وحتى يومنا هذا يرتبط فشل أو نجاح الحكومة بعلاقة الطوائف بين بعضها البعض، أو بمعنى أدقّ بعلاقة زعماء الطوائف بين بعضهم البعض، بحيث لا يُمكن أن يمر أي قرار إلا من خلال ممر “التفاهم الإلزامي” بين ديوك الطوائف مجتمعة.. وإلا فإن مصير الحكومة سيكون التعطيل أو السقوط أو حتى خلق أزمة بعناوين طائفية تترجم مواجهات في الشارع تصل إلى حد التهديد بخيار الإحتراب الأهلي، كما حصل في أكثر من محطة في السنوات العشرين الأخيرة. إذ أنّ النظام السياسي في لبنان، قبل الطائف وبعده، يقوم على العلاقة بين الطوائف التي تُحدّد بدورها علاقة هؤلاء بالدولة. وهذا النوع من الحكم لن يؤدّي حتماً إلى قيام دولة بمفهومها الحقيقي.

في العام ١٩٨٩، لعبت التغيّرات السياسية في المنطقة الدور الأساس في توفير الدفع الدولي والاقليمي في اتجاه إقرار اتفاق الطائف[1]. قبله بأقلّ من عام، رأى المسؤولون الأميركيون أن الإصلاحات السياسية والدستورية في البلاد هي شرط أساس لتحقيق الاستقرار في لبنان

 المشهد اليوم في لبنان. فبين التغيّر في ميزان القوى في المنطقة وبين تبعات الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، ظهرت حالة من الفوضى السياسية بين خطاب يحاول تحقيق مكاسب سياسية عبر استثمار الحضور الأميركي الذي بات أقوى في لبنان (وهو لطالما كان قويّا)، وهو الخطاب الذي يتنبناه ما يُعرف بـ”التيار السيادي” في لبنان وبين خطاب يتبنّاه بشكل خاص ويقوده ما يُعرف بـ”الثنائي الشيعي”، وهو ما يزال يجنح نحو انكار الحقائق وعدم الاعتراف بمسؤولياته ليس فقط في ما يخصّ نتائج الحرب بل أيضاً مسؤوليته ـ مع الآخرين طبعاً ـ في ما وصلت إليه أوضاع البلاد سياسيّاً واقتصادياً واجتماعياً وماليّاً ونقدياً.

وحتى الآن، يرفض “الثنائي الشيعي” التعامل الواقعي مع نتائج الحرب على لبنان أولاً، وبالتالي، ثمة حاجة ملحة لتسهيل مهمة العهد الجديدة وتشكيل حكومته الأولى للبدء بتنفيذ الإصلاحات التي تشترطها معظم الدول العربية والمجتمع الدولي قبل مساعدة لبنان في إعادة إعمار ما هدّمه العدوان الإسرائيلي المستمر ضد لبنان واللبنانيين.

منذ تكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة العتيدة، يطالب “الثنائي” بحقيبة وزارة المالية باعتبارها “حقّاً مكرّساً” في مداولات اتفاق الطائف. غير أن اتفاق الطائف لم يشر في أي بند من بنوده إلى أن حقيبة المالية مُكرّسة للتمثيل الشيعي، أو لإحداث توازن (شراكة) مع باقي رموز السلطة التنفيذية، علماً أن هذه الشراكة مُكرّسة فعلاً من خلال التوزيع الطائفي التمثيلي في الرئاسات الثلاث، وتحديداً لدى الطائفة الشيعية في رئاسة مجلس النواب. لذلك، لا يمكن فصل هذا الإصرار عن رغبة المرجعيات الشيعية في تكريس المثالثة بدل المناصفة في الدولة، وهي رغبة تعود إلى العام ١٩٨٩ عندما حاول عدد من النواب تمريرها خلال مفاوضات الطائف ولم يتمّ السير بها آنذاك

ومع تبدّل ميزان القوى في المنطقة في السنوات القليلة الماضية ونجاح “الثنائي” في فرض سلطته على الدولة كليّاً، شكّلت حقيبة المالية أحد أدوات هذه السلطة، فأصبحت عُرفاً مستجداً بفعل الأمر الواقع. فمنذ ٣١ تشرين الأول/أكتوبر ١٩٩٢ إلى العام ٢٠١٤، لم يتسلّم أي شيعي حقيبة المالية، بل بدأ إسناد هذه الحقيبة إلى ممثلين عن الشيعة وتحديداً إلى فريق رئيس مجلس النواب نبيه برّي في ١٥ شباط/فبراير ٢٠١٤ وصولاً إلى يومنا هذا.

وتتمثّل العقدة الأساسية اليوم أمام الحكومة وبالتالي أمام انطلاقة العهد الجديد بحقيبة المالية، من باب حقّ التمثيل الشيعي الذي لم يُمسّ به أساساً في الدستور كما في الممارسة السياسية. هذا التمثيل أعطي توصيفاً وجودياً صوّر المشهد على أنه محاولة دولية وإقليمية وداخلية لإقصاء الشيعة، في حين أن الحرب الأخيرة على لبنان أبرزت الالتفاف الشعبي حول الجنوبيين وحول حق مقاومة الاحتلال كما رفض الاعتداءات الإسرائيلية بعد الحرب، وفي طليعة هؤلاء رئاسة الوزراء ممثلة برئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي كما بمعظم الشخصيات والتيارات السياسية المناهضة لـ”الثنائي”.

وفي سياق الحديث عن نهج “الثنائي”، لا يمكن تجاوز مشهدية الأمس المتناقضة بين نموذجين: الالتفاف الشعبي حول الجنوبيين الذين ذهبوا إلى قراهم برغم الاحتلال، والمسيرات السيارة الليلية لشبان هتفوا شعارات طائفية ومذهبية للدلالة على استمرار الحضور والقوة والنفوذ، ما أعاد اللغة المذهبية والتخوينية بين الناس ووضع بيئة “الثنائي” نفسها في مواجهة بالعلاقة مع الطوائف والمذاهب الأخرى.

تقف تشكيلة حكومة نواف سلام بين هذين المشهدين، ويقف معها مستقبل لبنان. فإما أن يتمّ تذليل العقبات أمام الحكومة بأسماء كفوءة من كل الطوائف والمذاهب لتشكّل نواة حكم مستقرّ وسويّ لمعالجة كل المشاكل، أم يتمّ تشكيل حكومة بأسماء ونهج لا تختلف عن تلك المسيرات السيّارة وإن تجمّلت بعناوين دستورية وألقاب وزارية.

ختاماً؛ قال لي صديق منذ أيام أن إيجابية نواف سلام أنه لا يملّ من قراءة الدستور على مسامع المحيطين به ليقنعهم بالسير به. ورمزية الأخير تكمن في أنه لا ينتمي إلى المنظومة التقليدية كما رئيس الجمهورية، وهذا كان السبب الأساسي في حماسة اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم لتسميته، لذلك، فإن فشل سلام سيكون فشل الفرصة التي يبحث عنها لبنان وإن شكليّا. فهل يستطيع المعرقلون تحمّل تبعات فشل تشكيل الحكومة أمنياً وسياسياً واقتصادياً؟

المصدر : موقع 180