بأقلامهم >بأقلامهم
قراءة في خطاب نصر الله.. مقاربة سوسيولوجية أخلاقية سياسية



جنوبيات
في إطار دراسة الخطاب السياسي ودلالاته المجتمعية، نستعرض اليوم كلمة الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله خلال حفل إفطار التعبئة التربوية بتاريخ 26-11-2001، حيث تبرز رؤيته لمواجهة التحديات الطائفية والاجتماعية في لبنان والمنطقة، مع تأكيده على البُعد الأخلاقي للعمل السياسي والمقاومة.
وفي خضمّ تعقيدات النظام الطائفي اللبناني، يبرز خطاب سماحة السيد حسن نصر الله عام (2001) نموذجاً لـ "السياسة الأخلاقية" التي تسعى لتحويل المبادئ الدينية إلى أدوات تغيير مجتمعي، عبر ثلاث آليات: تفكيك الطائفية ببناء هوية دينية جامعة، وتحويل العدالة الاجتماعية إلى عقد وطني، وربط المقاومة بالمشروع الأخلاقي.
ففي مجتمعٍ مزَّقته الحرب الأهلية (1975-1990)، يحاول الخطاب تجاوز الانتماءات الضيقة عبر إعادة تعريف الدين ليس كهوية مغلقة، بل كقيم عدالة تُواجه الظالم حتى لو انتمى إلى أي مذهب، مستلهماً نموذج "الهيمنة الثقافية" عند غرامشي، حيث تُستخدم القيم الأخلاقية لبناء تحالفات عابرة للطوائف. كما يربط الخطاب بين الفريضة الدينية والعدالة التوزيعية، عبر مؤسسات تُعيد إنتاج "رأس المال الاجتماعي" (كما عند بورديو)، وتعوّض فشل الدولة في تقديم الخدمات.
ويبقى السؤال عن إمكانية تحويل "المقاومة" من مشروع طائفي إلى حركة وطنية. ليصبح الخطاب وثيقةً لفهم إشكالية العلاقة بين الأخلاق والسياسة في الشرق الأوسط: فهل تُعيد الأخلاق تشكيل السياسة، أم تتحول إلى غطاء لهيمنة جديدة؟ جواب هذا السؤال سيحدِّد مصير النموذج اللبناني في تحقيق المعادلة المستحيلة: "العدالة كأخلاق، والسياسة كفنٍّ لتحقيقها".
إشكالية العلاقة بين الأخلاق والسياسة
شكَّلت العلاقة بين الأخلاق والسياسة محوراً رئيسياً في الفكر الإنساني منذ العصور القديمة، بدءاً من فلسفة كونفوشيوس في الصين التي ربطت الحكم الرشيد بالفضيلة، مروراً بأفلاطون الذي رأى في "الفلاسفة الحُكّام" تجسيداً للحكمة والعدالة.
في هذا السياق، يقدم خطاب سماحة السيد حسن نصر الله نموذجاً معاصراً للسياسة الأخلاقية، التي تسعى لتحقيق التوازن بين المبادئ الدينية والواقع المجتمعي المعقَّد، خاصة في بيئة لبنانية تمزقها الطائفية.
يسعى سماحته إلى بناء هوية لبنانية جامعة عبر خطاب ديني يُعيد تعريف الانتماء الطائفي ليس كـ"هوية منغلقة"، بل كـ"إطار قيمي" يدعو إلى نصرة المظلوم، مستخدماً الآية القرآنية الكريمة: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾.
الطائفية والانتماء الديني - صراع الهوية والعدالة
- التمييز الجذري: يفصل سماحة السيد نصر الله بين الانتماء الطائفي (القبلي العشائري المُحرَّك بالغرائز والمصالح الضيقة) والانتماء الديني (القائم على القيم الإنسانية الكونية).
فـ"المتدين" يُخاصم الظالم ولو كان من دينه، بينما "الطائفي" يُعين الظالم لمجرد انتمائه الطائفي.
- المقاومة كتجسيد للانتماء الديني: يرى أن المقاومة الإسلامية في لبنان نجحت في تجاوز الانقسامات الطائفية عبر تبني خطاب وطني جامع، معتبراً أن تربيتها الإيمانية حوَّلت المجاهدين إلى حماة للعدالة لا عناصر تفجير داخل المجتمع.
تحدي الطائفية - من التشخيص إلى الحلول
- تشخيص الأزمة: يحذّر من تحوُّل النخب المثقفة إلى وقود للصراع الطائفي، مشيراً إلى أن التعايش مع هذه "الأمراض الفتاكة" يُهدد مستقبل لبنان.
هل تُعيد الأخلاق تشكيل السياسة في الشرق الأوسط؟
يُقدّم خطاب سماحة السيد حسن نصر الله نموذجاً لـعلم اجتماع الأخلاق السياسية، الذي يدرس كيف تُعاد توظيف القيم الدينية لمواجهة تحديات الحداثة المعقدة. إن نجاح هذه الرؤية مرهونٌ بقدرتها على تجاوز التناقضات التاريخية بين:
- الأخلاق كـ"خطاب مثالي" والسياسة كـ"فن الممكن".
- الهوية الدينية كـ"انفتاح على الكونية" وكمكوِّن طائفي.
يُذكِّرنا هذا الخطاب بأن السياسة - في أعظم تجلياتها - ليست إلا فناً لتحقيق المستحيل الأخلاقي في واقعٍ مليء بالتناقضات.
- يدعو سماحته إلى:
1- الترفّع عن الحسابات الضيقة والتعاون لمواجهة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية.
2- تبني خطاب ديني إنساني يتسع للوطنية والقومية دون تناقض.
3- تفعيل دور المؤسسات لترشيد الصحوة الدينية وتحويلها إلى قوة داعمة للعدالة.
نحو مقاومة اجتماعية شاملة
يختتم الخطاب بربط النضال السياسي بالمشروع الأخلاقي، حيث تُصبح المقاومة ليس فقط مواجهةً للاحتلال، بل أيضاً دفاعاً عن كرامة الإنسان عبر عدالة اجتماعية تُحطم قيود الطائفية.
هذه الرؤية تقدم نموذجاً لـعلم اجتماع السياسة يدرس تفاعل القيم الدينية مع البنى المجتمعية في تشكيل الهوية الوطنية.
يشبه تصويره للمقاومة كـ"حماية للعدالة" تجارب تاريخية كـ"الثورة الجزائرية" التي حوَّلت الجهاد من مفهوم ديني إلى كفاح وطني ضد الاستعمار.
- الأخلاق كبديل عن الإيديولوجيا: في ظل فشل المشاريع القومية واليسارية في لبنان، يقدم خطابه الأخلاقي أساساً لـ"عقد اجتماعي جديد" لبناء هوية وطنية فوق الانقسامات العرقية عبر مصالحة أخلاقية.
لقد كان ولا زال سماحته الأب والمعلم الذي رسخ المفاهيم الأخلاقية الأساسية لدى عدة أجيال سابقة ولاحقة وبنى مفهوم ونظرة جديدة للسياسة الصادقة والأمانة أللا متناهية في قول الحق وفق أخلاقيات يفتقدها الكثير من القادة في العالم حيث أعاد صياغة مفهوم جديد للسياسة الأخلاقية.
بالنسبة إلى الكثيرين من أبنائه ومناصريه ومحبيه فإن النظر إلى سماحته كأمة فهو التطلع الأسمى لشباب هذا العالم لما يأملونه بأن تكون هذه الأمة من الإباء والعزة والكرامة والقوة والقدرة والوقوف في وجه الظالمين وقتلة الأطفال والمساندين لهم وان قوة هذه الأمة في الاتحاد على كافة هذه المعايير الأخلاقية والإنسانية.
المصادر والمراجع العلمية التي تناولت الموضوع:
قائمة بمصادر أكاديمية وعلمية تُساهم في فهم الإطار النظري لتحليل الخطاب السياسي - الأخلاقي، مع التركيز على الحالة اللبنانية:
مصادر أولية:
خطاب سماحة السيد حسن نصر الله - حفل إفطار التعبئة التربوية (26 نوفمبر- 2001).
القرآن الكريم - الآيات المُستشهَد بها في الخطاب (مثل: البقرة 263، المائدة 8).
في علم الاجتماع السياسي والنظرية النقدية:
أنطونيو غرامشي - "دفاتر السجن" 1971.
- تحليل مفهوم "الهيمنة الثقافية" وكيفية توظيف القيم الأخلاقية في بناء التحالفات السياسية.
بيير بورديو - "رأس المال الاجتماعي" 1986.
- دراسة دور المؤسسات الخيرية في تعزيز التماسك المجتمعي عبر شبكات الثقة.
ماكس فيبر - "الاقتصاد والمجتمع" 1922.
- تحليل الطائفية كـ"جماعة مغلقة" (Closed Group) تتنافس على الموارد والسلطة.
في الدراسات اللبنانية والطائفية:
فواز طرابلسي - "تاريخ لبنان الحديث" 2007.
- تحليل جذور النظام الطائفي وتداعيات اتفاق الطائف.
ثيودور هانف - "التعايش في حرب طويلة: المجتمع اللبناني في الصراع" 1993.
- دراسة تأثير الحرب الأهلية على الهويات الطائفية.
أغسطس ريتشارد نورتون - "حزب الله: تاريخ مختصر" 2007.
- تحليل تطور الحزب من حركة مقاومة إلى لاعب سياسي معقد.
في الأخلاق والسياسة:
إدوارد سعيد - "الثقافة والإمبريالية" 1993.
- نقاش حول توظيف الخطاب الأخلاقي في مقاومة الهيمنة الخارجية.
علي شريعتي - "الدين ضد الدين" 1979.
- تحليل إشكالية توظيف الدين في الصراعات السياسية.
مايكل والزر - "السياسة والأخلاق" 2006.
- دراسة العلاقة بين المبادئ الأخلاقية والممارسة السياسية في المجتمعات المُنقسمة.
في الخطاب الإسلامي والعدالة الاجتماعية:
سيد قطب - "العدالة الاجتماعية في الإسلام" 1949.
- مرجعية لفهم الربط بين الفريضة الدينية والعدالة التوزيعية.
طارق رمضان - "الإسلام والصحوة الأخلاقية" 2009.
- تحويل القيم الدينية إلى مشروع سياسي معاصر.
جوديث هاريك - "حزب الله: وجه آخر" 2005.
- دراسة شبكات الخدمات الاجتماعية للحزب كأداة لبناء الشرعية.
كاتب وباحث لبناني.