بأقلامهم >بأقلامهم
هل بأيدينا تغيير أقدارنا؟



جنوبيات
في زوايا هذا الكون المترامي، حيث تتلاعب الأقدار بخيوط الحياة بخفّةٍ لا تُرى، يتساءل الإنسان دومًا: هل بوسعه تغيير مجرى الأحداث؟ هل يستطيع إعادة كتابة فصول حياته بيديه، أم أنّه مجرّد تابع لقدَرٍ لا يرحم، يُسيّره وفقًا لحكمة خفيّة لا يدرك كنهها؟
تتردّد هذه الأسئلة في ذهنه كعاصفةٍ، وتتوالى الإجابات المحتملة، لكنّ الحقيقة تبقى غامضة، تتأرجح بين الأمل والشك. ربما، في أعماق كلّ إنسان، ثمّة شعور دفين بالقدرة على التأثير، على تبديل الواقع بأفعال صغيرة أو قرارات جريئة. ومع ذلك، يظلّ السؤال قائمًا: هل ما نفعله هو اختيار حرّ، أم أننا نسير بلا وعي في دروب قُدّرت لنا سلفًا؟
إنها معضلة الوجود التي تضع الإنسان في صراعٍ دائمٍ بين رغبته في التغيير وقبوله بما هو مقدَّر. فهل الحرية في الاختيار حقيقية، أم أنها مجرّد وهم يختلقه العقل البشريّ لتخفيف وطأة الجهل بما هو آتٍ؟
في لحظاتٍ تتسارع فيها نبضات القلب، وتُختزل فيها الأزمنة، تبرز أسئلة المصير كضوءٍ يتحدّى عتمة الحيرة: هل نحن من نختار طرقنا، أم أن هناك يدًا خفية تمسك بزمامنا، تدفعنا حيث تشاء؟ قد نجد أنفسنا أمام مفترق طرق، نبحث عن سبيل يحرّرنا من الأقدار التي كُتبت علينا، لكنّ الحقيقة التي تكشفها التجارب أنّ القدر لا يتغيّر، إلا إذا اخترنا أن نراه متغيّرًا.
يرى البعض أنّ القدر سلسلة من الأحداث المحكمة التي لا تترك لنا مجالًا للاختيار، غير أنّ ما يغفل عنه الكثيرون هو أنّ القدر ليس في الأحداث نفسها، بل في ردود أفعالنا تجاهها. فالتغيير لا يكمن دائمًا فيما يحدث لنا، بل في الطريقة التي نتعامل بها مع ما يحدث. القدر قد يضعنا أمام اختبارات الحياة، لكنّنا نحن من نقرّر كيف نواجهها، كيف نعيد تشكيلها، وكيف نحوّلها إلى محطات تعلّم ونمو.
وكثيرًا ما تُحاك الأقدار في الخفاء، فتأخذنا نحو مسارات لم نكن نتوقعها، نراها في البداية عقبات مستحيلة، لكنها سرعان ما تتحوّل إلى فرص تمنحنا دروسًا لم نكن لنتعلمها بغيرها. قد نشعر أحيانًا بأننا مضطّرون للاستسلام للقدر حين يعجزنا الواقع، لكنّنا نكتشف لاحقًا أن هذا الاستسلام، في حدّ ذاته، قوّة خفيّة تمنحنا القدرة على إعادة النهوض.
من هنا، قد لا يكون تغيير القدر، بمعناه التقليديّ، أي قلب مجريات الحياة جذريًا، أمرًا ممكنًا. لكنّنا بلا شك قادرون على تغيير طريقة عيشنا لهذا القدر، على استثماره، وعلى الخروج من كلّ تجربة أكثر وعيًا وحكمة. فربما يكمن السرّ في تحوّلنا من مجرّد ضحايا للأقدار إلى صانعي مصائرنا.
في الأوقات التي نشعر فيها بالعجز، قد نعتقد أنّنا في مواجهة قوى تفوقنا، لكنّنا لا ندرك أن هذه التحديات هي التي تصنع فرصنا الحقيقيّة للنموّ. فالأقدار لا تأتي دائمًا كما نريدها، لكنّها تأتي بما نحتاج إليه، وإن بدا لنا مغطّى بالصعوبات. ففي كلّ تحدٍّ تكمن بذرة الفرصة، وفي كلّ ضيق يلوح أفق جديد. وعندما نتعلّم أن نحتضن هذه التحديات بمرونة ووعي، ندرك أنّنا نمتلك القدرة على تكييف مسار حياتنا وفقًا لأحلامنا وإمكاناتنا، مهما اعترضتنا العقبات.
قد نصل إلى قناعة بأن الأقدار ليست مجرّد أحداث عابرة، بل هي أيضًا الطريقة التي نختار أن نحياها. فكلّ تجربة، مهما كانت قاسية أو مبهجة، تمنحنا فرصة لإعادة تشكيل ذواتنا من جديد. ومع مرور الزمن، نبدأ في إدراك أن ما كنا نراه قدَرًا محتومًا، لم يكن سوى فرصة خفيّة لإعادة اكتشاف أنفسنا، وإعادة رسم ملامح حياتنا بطرق لم تكن تخطر لنا يومًا.
في النهاية، القدر قد يكون مرآة تعكس صدى أرواحنا. فإذا آمنّا بقدرتنا على التغيير، فإنّنا من حيث لا ندري، نغيّر أقدارنا أيضًا.