لبنانيات >أخبار لبنانية
نص كلمة الرئيس جوزاف عون في القمة العربية في القاهرة


جنوبيات
ألقى رئيس الجمهورية اللبنانية العماد جوزاف عون، كلمة في القمة العربية الطارئة، التي عقدت في القاهرة، يوم الثلاثاء في 4 آذار/مارس 2025، تحت عنوان "قمة فلسطين"، جاء فيها:
سيادة رئيس القمة في دورتها غير العادية، رئيس جمهورية مصر العربية، الفريق عبد الفتاح السيسي،
جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة، رئيس القمة العربية الثالثة والثلاثين،
الإخوة أصحاب الجلالة والسيادة والسمو الأعزاء.
قد أكونُ آخرَ الوافدين إلى مجلسِكم.
وهذا لا يخولني إعطاءَ الدروسِ عن فلسطين، موضوعِ قمتِنا ... وأمانتِنا.
لكنني آتٍ إليكم من أربعين سنةً ونيفٍ، جندياً في خدمةِ وطني وشعبي.
وهذا ما يدفعني لاستئذانِكم، لتقديمِ شهادةِ حياةٍ لا غير.
لقد علّمني لبنانُ أولاً، أنّ فلسطينَ قضيةُ حق.
وأنّ الحقَ يحتاجُ دوماً إلى القوة.
وأنّ القوةَ في نضالات الشعوب، هي قوةُ المنطق. وقوةُ الموقف. وقوةُ إقناعِ العالم. وقوةُ حشدِ تأييدِ الرأي العام. وقوةُ موازين القوى الشاملة ...
وهي، أيضاً، عند الحاجةِ والضرورةِ المشروعة، والفرصة والظروف اللازمة لتحقيق النصر، قوةُ القوة، للدفاع عن الحق.
وعلّمني لبنانُ ثانياً، أنّ فلسطينَ قضيةٌ ثالوث:
فهي حقٌ فلسطينيٌ وطني. وحقٌ عربيٌ قومي. وحقٌ إنسانيٌ عالمي.
وأننا كلما نجحنا في إظهار هذه الأبعاد السامية لفلسطينَ القضية، كلما نصرْناها وانتصرنا معها.
وبالمقابل، كلما حجّمناها وقزّمناها، إلى حدودِ قضيةِ فئةٍ أو جهةٍ أو جماعةٍ أو محور...
وكلما تركنا فلسطينَ تُزجُّ في أزقةِ صراعاتٍ سلطويةٍ هنا، أو نزاعاتِ نفوذٍ هناك...
كلما خسرناها وخسرنا معها.
وعلّمتني حروبُ لبنانَ أيها الإخوة، أنّ البُعدَ الفلسطيني لقضية فلسطين، يقتضي أن نكون دائماً مع شعبِها. أصلاً وفعلاً.
أي أن نكونَ مع خياراته ومع قراراته. مع سلطاتِه الرسمية ومع ممثليه الشرعيين. أنْ نقبلَ ما يقبلُه شعبُها. وأن نرفضَ ما يرفضُه.
من دون مزايدة على إخوتنا الفلسطينيين. ولا استغلال لعذاباتِهم. ولا تجاهل لنضالاتِهم.
وعلمتني حروبُ الآخرين في لبنان، أنّ البُعدَ العربي لقضية فلسطين، يفرضُ أن نكونَ كلُنا أقوياء، لتكونَ فلسطينُ قوية.
فحين تُحتلُ بيروت، أو تُدمّرُ دمشق، أو تُهدّدُ عمّان، أو تئنُّ بغداد، أو تسقطُ صنعاء ...
يستحيلُ لأيٍ كانَ أن يدّعيَّ، أنّ هذا لنصرةِ فلسطين.
أن تكونَ بلدانُنا العربية قوية، باستقرارِها وازدهارِها، بسلامِها وانفتاحِها، بتطورِها ونموِها، برسالتِها ونموذجيتِها...
إنه الطريقُ الأفضلُ لنصرةِ فلسطين.
فكما أنَ سيادةَ لبنانَ الكاملة والثابتة، تتحصّنُ بالتعافي الكاملِ في سوريا، كما بالاستقلالِ الناجزِ في فلسطين،
الأمرُ نفسُه بالنسبةِ إلى كلِ دولةٍ من دولِنا، في علاقاتها وتفاعلِها مع كل جارٍ عربيٍ، ومع كلِ منطقتنا العربية.
فأيُ اعتلالٍ لجارٍ عربي، هو اعتلالٌ لكل جيرانه. والعكسُ صحيحٌ.
وفي هذا السياق بالذات، علّمني لبنانُ بعد عقودٍ من الصراعات والأزمات والإشكاليات، أنْ لا صحةَ لأي تناقضٍ موهومِ، أو لنزاعٍ مزعوم، بين هوياتنا الوطنية التاريخية والناجزة، وبين هويتِنا العربية الواحدة والجامعة. بل هي متكاملة متراكمة.
فأنا لبنانيٌ مئة بالمئة. وعربيٌ مئة بالمئة. وأفخرُ بالاثنين. وأنتمي وطنياً ورسالياً إلى الاثنين.
أما أن تكونَ فلسطينُ قضيةَ حقٍ إنساني عالمي، فيقتضي أن نكونَ منفتحين على العالمِ كلِه. لا منعزلين. أصدقاءَ لقواه الحيّة. متفاعلين مع مراكزِ القرارِ فيه. محاورين لها لا محاربين. مؤثرين لا منبوذين.
هذا ما علّمني إياه لبنانُ عن فلسطين، طيلة عقود. وهذا ما أشهدُ به أمامَكم اليوم.
أشهدُ به، بعدما تعهدتُ أمام شعبي، بعودةِ لبنانَ إلى مكانِه ومكانتِه تحت الشمس.
وها أنا هنا بينكم، أجسّدُ العهد. فها هو لبنانُ قد عادَ
أولاً إلى شرعيته الميثاقية، التي لي شرفُ تمثيلِها.
وها هو الآن يعودُ ثانياً إلى شرعيتِه العربية،
بفضلِكم وبشهادتِكم وبدعمِكم الدائم المشكورِ والمقدّر.
ليعودَ معكم ثالثاً إلى الشرعيةِ الدولية الأممية. التي لا غنى ولا بديلَ عنها لحمايتِه وتحصينِه واستعادةِ حقوقِه كاملة.
ففي بلدي، تماماً كما في فلسطين، ما زالت هناك أرضٌ محتلة من قبل إسرائيل. وأسرى لبنانيون في سجونها. ونحن لا نتخلى عن أرضنا ولا ننسى أسرانا ولا نتركهم.
وما زال هناك عدوانٌ يوميٌ ترتكبُه. وما زال هناك أبرياءُ من شعبي يسقطون كلَ يوم. بين شهادةٍ وجراح. بين دمارٍ ودماءٍ ودموع. أنحني أمام عذاباتِهم. وأرفعُ رأسي أنني من بلادِهم.
فلا سلامَ من دون تحريرِ آخر شبرٍ من حدودِ أرضِنا، المعترفِ بها دولياً، والموثقة والمُثبتة والمرسّمة أممياً.
ولا سلامَ من دون دولةِ فلسطين.
ولا سلامَ من دون استعادةِ الحقوق المشروعة والكاملة للفلسطينيين.
وهو ما تعهدنا به كدولٍ عربية. منذ مبادرةِ بيروتَ للسلام سنة 2002، حتى إعلان الرياض في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي.
وهذا ليس موقفاً عقائدياً. ولا اصطفافاً سياسياً.
هذا توصيفٌ لواقعٍ حياتيٍ، يعرفُه ويعيشُه في وجدانِه ويومياته، كلُ إنسانٍ في بلداننا ومجتمعاتنا.
أيها الإخوة، لقد عانى لبنانُ كثيراً. لكنه تعلّمَ من معاناته.
تعلّمَ ألا يكونَ مستباحاً لحروبِ الآخرين.
وألا يكونَ مقراً ولا ممراً لسياساتِ النفوذِ الخارجية. ولا مستقَراً لاحتلالاتٍ أو وصاياتٍ أو هيمنات.
وألا يسمحَ لبعضِه بالاستقواء بالخارج ضدَ أبناءِ وطنِه. حتى ولو كان هذا الخارجُ صديقاً أو شقيقاً.
وألا يسمحَ لبعضِه الآخر، باستعداءِ أيِ صديقٍ أو شقيق. أو إيذائه فعلاً أو حتى قولاً.
تعلمَ لبنان أنّ مصالحَه الوجودية هي مع محيطِه العربي. وأنّ مصالحَه الحياتية هي مع العالمِ الحرِ كلِه.
وأنّ دورَه في منطقته أن يكونَ وطنَ لقاء. لا ساحةَ صراع.
وأنّ علةَ وجودِه هي في صيانةِ الحرية، وصياغةِ الحداثة، وصناعةِ الفرح.
فرحُ الحياةِ الحرة الكريمة السيدة المزدهرة اليانعة، المنفتحة على كلِ ما هو جمالٌ وحقٌ وخيرٌ وعدلٌ وقيمٌ إنسانية جامعة حيّة.
سيادة الرئيس، ختاماً كلُ الشكر على الدعوة والاستضافة.
اليومَ يعودُ لبنانُ إليكم. وهو ينتظرُ عودتَكم جميعاً إليه غداً.
فإلى اللقاء. وحتى ذاك لكم من لبنانَ كلُ التحية وكلُ الأُخوّة