بأقلامهم >بأقلامهم
أحمد سعد.. "شــهيد" العمل الإنساني والصحفي المقاوم
أحمد سعد.. "شــهيد" العمل الإنساني والصحفي المقاوم ‎الجمعة 27 06 2025 15:32 وليد العوض
أحمد سعد.. "شــهيد" العمل الإنساني والصحفي المقاوم

جنوبيات

كالفارس الذي يمتطي صهوة جواده يترجل الفارس الصحفي أحمد سعد وأشقاؤه شهداء

في كل وقت كان الرفيق والابن الحبيب أحمد سعد، الذي باغتته صبيحة هذا اليوم الجمعة إلى جانب شقيقيه علاء وعلي، طائرات الاحتلال في حي التفاح، وهم يقومون بواجبهم في محاولة إنقاذ بعض من جيرانهم الذين تعرضوا لقصف العدو الغادر. لم تمهلهم طائرات الكواد كابتر التي تسكن سماء قطاع غزة، تفرض حظر التجوال على أحياء بأكملها، بل وعلى المدينة برمتها. تطلق زخات الرصاص على المارة وبين الأزقة وعلى عتبات البيوت، تلقي حمم صواريخها الغادرة على خيم النازحين ومراكز الإيواء وتكيات الطعام ونقاط الشحن والإنترنت، كما على سيارات نقل المياه وعربات الكارو والشقق السكنية. تمزق الأطفال وتحيل لحمهم الغض إلى أشلاء.

اليوم الجمعة، مع ساعات الصباح وقرص الشمس يتقدم من الشرق رويداً رويداً، دوت أصوات قذائف المدفعية والدبابات، وانهمرت صواريخ الطائرات على الأحياء الشرقية لمدينة غزة، كما في جباليا وغيرها من مدن وقرى وبلدات القطاع. في حي التفاح، حيث أصر أحمد سعد مع عائلته الطيبة على عدم النزوح منها رغم أنها منطقة مصنفة بالخطرة يحذر التواجد فيها، إلا أن أحمد سعد وعائلته عقدوا العزم على البقاء فيها. لم يغادروها جنوباً إبان مرحلة النزوح الكبير مع بداية حرب الإبادة.

أحمد سعد كان الوحيد من فريق الإغاثة الزراعية الذي بقي في مدينة غزة وشمالها. وسيسجل التاريخ أن أحمد حمل على كتفيه عبئاً كبيراً كواحدٍ من رواد العمل التطوعي تحت خطر الموت الذي داهمه في أكثر من مكان. وفي وقتٍ لم تكن تعمل فيه في مدينة غزة وشمالها أي من المؤسسات الأهلية، نجح أحمد في تجنيد فريق من أصدقاء الإغاثة الزراعية بتوجيه مباشر من إدارتها في قطاع غزة والضفة الغربية. بات هذا الفريق عنواناً ليس فقط للعمل التطوعي والإغاثي، بل وللشجاعة أيضاً. عمل هذا الفريق إلى جانب أحمد بصمت وخلق رفيع على إيصال ما أمكن من الإغاثات الطارئة والمياه الصالحة للشرب لمختلف أحياء قطاع غزة، بما في ذلك المناطق الأكثر خطورة. ونذكر له ولفريقه إيصال بعض المساعدات ومياه الشرب لمنطقة جنوب غرب مدينة غزة، هذه المنطقة التي لم تكن تسكنها إلا بضعة عائلات وعشرات القطط.

اليوم، يرحل أحمد سعد وإخوته شهداء بعد أن مزقهم صاروخ أطلقته طائرة كواد كابتر. يرحل أحمد الخلوق الطيب الذي يعمل بصمت ضمن فريق الإغاثة الزراعية الذي اكتمل بعد عودة زملائه من نزوح الجنوب. تنحى عن موقعه الذي شغله كمنسق في ظروف الطوارئ، ملتزماً بالقرارات الإدارية دون شكوى أو تذمر، وعاد ليشغل مهمته كمنسق للإعلام في الإغاثة بغزة.

أحمد سعد ربطتنا به علاقة عائلية صاغها بإنسانية رفاقية قلَّ مثيلها. وهو الذي نسجل له أنه ساهم بإنقاذ حياتنا من موتٍ محتم، وقد كتبت عنه في حينه التالي: في مقال سابق بتاريخ ١٢-٧-٢٠٢٤، حين تعرضت وعائلتي لحصار مميت دام أسبوعاً، غامر الرفيق أحمد سعد بحياته عندما جاء ليخرجنا تحت النار من جحيم الموت. اليوم، نودع الرفيق أحمد سعد الذي شغل مهمة منسق الإغاثة الزراعية بمدينة غزة.

عندما عقدنا العزم على مغادرة المنطقة التي غادرها الناس منذ عشرة شهور ولم تعد صالحة حتى لسكن القطط، وقد تعرضت لحصارات متتالية عشتها مع أسرتي رغم شدتها. في أحدها، حيث لامسنا الموت وعادت الدبابات وتمركزت عند شركة جوال على بعد مئة متر من مكاننا، وظهر الأمر وكأنه تمركزاً ليس ثابتاً يتحرك من حين لآخر، أعددنا عدتنا بحمل ما خف حمله ويعيننا على تحمل مشاق نزوح إجباري داخلي هو أخف من نزوح نحو الجنوب.

في تلك اللحظات، فإذا بصوت فريق الإغاثة الزراعية (أحمد سعد وسالم السوسي) قد وصلوا، مغتنمين فرصة تحرك الدبابات للتبديل أو هكذا كان القدر، حيث أبلغوني أن الرفيق الحبيب (تيسير أبو ياسر) طلب منهما الوصول إلينا وإخراجنا بأي طريقة، وقد ظنوا أننا تحت ركام الأبراج المجاورة التي تم نسفها. فتحركنا معهما بين أكوام الركام وعلى وقع انفجارات القذائف حتى وصلنا لدوار أبو مازن، ثم الصناعة، حيث تتكوم جثث الشهداء والجرحى التي لم تتمكن سيارات الإسعاف من الوصول إليها. نقلتنا سيارتهم إلى بيت الرفيق ناصر الفار.

اليوم، ونحن نودعك شهيداً يا أحمد، أسجل لك أنك ساهمت بشجاعة مع فريق الإغاثة بإخراجنا من الموت المحتم. وبعد أن تمكنا من الخروج، لم نكن نحمل كسرة خبز أو كيلو طحين ولا علبة فول. ذهب أحمد إلى بيته وعاد لنا بما أعاننا من مأكلٍ حتى استعدنا عافيتنا بعد ذلك الحصار اللعين.

يرحل أحمد وقد ترك بصمات لا تنسى في العمل التطوعي والأخلاقي والروح الرفاقية الطيبة. أحمد وإخوته، كما كل الشهداء، ليسوا خسائر تكتيكية يمكن إعادة إنتاجها من أولئك الذين لا يدركون أن الوقت من دم. الحياة في غزة أصبحت جحيماً لم يجربوه من فنادقهم وهم يحتسون قهوة الصباح من الشرفات المطلة على قاعدة العيديد.

الجمعة ٢٧-٦-٢٠٢٥

المصدر : جنوبيات