بأقلامهم >بأقلامهم
لبنان: هويّة ضائعة بين جدارين..
لبنان: هويّة ضائعة بين جدارين.. ‎الأربعاء 2 07 2025 07:32 حسن الدر
لبنان: هويّة ضائعة بين جدارين..

جنوبيات

عندما تصبح الصّورة هي الخبر، وملامح صاحبها تفاصيله، تدرك مكانته في قلوب النّاس، وأهمّيّة دوره وحضوره كضامن لما تبقّى من مصلحة وطنيّة ووحدة داخليّة في مواجهة التّحدّيات الخارجيّة.

فقد تكفّلت صورة فوتوغرافيّة للرّئيس نبيه برّي، انتشرت قبل أيّام، بالتّعبير عن واقع وطن أنهكته الحروب ولم تسعفه الظّروف لبناء دولة ذات هويّة قوميّة وسيادة وطنيّة تليق بثقافة إنسانه ومكانة تاريخه وفرادة صيغته.

تكوّم حزن أب مثكول ببنيه في ملامح الأستاذ نبيه، وكتبت تجاعيد السّنين سطوراً تُنبيء بقلق على إرث خمسة عقود من النّضال لأجل لبنان قويّ، أخرجه ذات انتفاضة من العصر الإسرائيلي إلى العصر العربي.

وفي عينيه الحائرتين ألف سؤال وسؤال حول الهويّة والمصير، وسط منطقة تغلي كلّها على نار حرب لا تبدو نهايتها أو تداعياتها قريبة.

فبعد أكثر من أربعة عقود على اسقاط اتّفاق العار في أيّار، ها هي «إسرائيل» تعود من الجو بعدما طردت من البرّ لتفرض شروط استسلام أقسى وأكثر ذلًّا على لبنان من شروط اتفاق ١٧ أيّار، مدجّجة بسلاح جوّيّ وذكاء اصطناعي، مدعومةً بغباء طبيعيّ عند بعض الّذين لم يتعلّموا من دروس التّاريخ، قريبه وبعيده.

وإذا كان الصّراع على هويّة لبنان منذ ولادته عام ١٩٢٠ انفجر حرباً أهليّة علم ١٩٧٥ فإنّ صراعاً متجدّداً يطفو على ضفاف شرق أوسط جديد لم تكتمل ملامحه بعد، لكن حتماً لم يعد بالإمكان إعادة عقارب السّاعة إلى ما قبل ٧ تشرين الأوّل ٢٠٢٣، والشّرق الجديد يستوجب تعريفاً يتناسب مع موقع لبنان ودوره ووظيفته فيه.

ولأنّ نقمة الجغرافيا تلازم لبنان منذ نشأته لوقوعه على فالق زلازل جيوسياسية ما تفتأ تتحرّك طبقاتها كلّما تغيّرت موازين القوى الإقليميّة والدّوليّة، فإنّنا أمام متغيّر سيحكم مستقبلنا لعقود قادمة.

ولأنّ لبنان وطن أوَت إليه قبائل لم تعرف يوماً معنى الدّولة، ولم تستطع يوماً بناء نواة دولة، فمن الطبيعة أن يتأثّر بكلّ أزمة خارجيّة، كيف لا ويرزح على حدودنا كيان بنى عقيدته على أساس نظريّة «الجدار الحديدي» الّتي كتبها «فلاديمير جابوتنسكي» عام 1923، وتحوّلت لاحقاً إلى عقيدة استراتيجية اعتمدتها «إسرائيل» في تعاملها مع العرب.

يرى «جابوتنسكي» (1880–1940)، وهو المفكّر والكاتب الصّهيونيّ المتشدّد، روسيّ الأصل، ويُعدّ من أبرز مؤسّسي الصهيونية التصحيحية، وهي التيار الذي مهّد الطريق لاحقاً لتأسيس حزب الليكود الإسرائيلي، أنّ العرب لن يقبلوا طواعية بالمشروع الصهيوني، ولذلك فإن التفاهم معهم غير ممكن، والحل الوحيد هو بناء «جدار حديدي» من القوة العسكرية الرادعة، بحيث يفقد العرب الأمل في طرد اليهود من فلسطين، وعندها فقط يمكن التفاوض معهم من موقع القوة.

لا تزال مفاهيم «جابوتنسكي» حاكمة على العقل الإسرائيلي، وقد حوّلها «نتنياهو» مؤخّراً إلى عقيدة ليس لإقامة «دولة قوميّة لليهود» بل لتطويع دول الجوار والشّرق الأوسط برمّته، حيث يُقدَّم الأمن على أي تسوية سياسية، ويسعى لفرض مشروع «إسرائيل الكبرى» أمنيّا واقتصاديًّا وسياسيًّا وفق رؤيته للشّرق الأوسط الجديد.

وكي لا ننسى، كما تناسى البعض، فمن المفيد التّذكير بجوهر عقيدة «جابوتنسكي»، حيث يقول بكلّ استخفاف وبرود:

«لسنا عدوانيين، ولا نريد أن نسحق العرب، نريد ببساطة أن نبني وطننا القومي بسلام، ولكن إن لم يكن ذلك ممكناً بسلام، فليكن بالقوة حتى يتقبّلوا الواقع».

ويقول بفائض من الوقاحة:

«نعم، نحن حركة استعمارية، ونفتخر بذلك، الاستعمار أنقذ أمماً وشعوباً، ونحن أيضاً حركة تحرّر قومي نريد وطناً لشعبنا».

وفي موضع آخر يقول:

«فقط عندما يدرك العرب أن لا أمل لهم في طردنا، حينها فقط سيتخلّون عن المقاومة، وسنتمكّن من التفاوض معهم».

وهذا جوهر ما يريده «نتنياهو»، الّذي يعتبر «جابوتنسكي» أباه الرّوحي، يريد تيئيس شعوب المنطقة من فكرة المقاومة وإخضاعها مستفيداً من صديقه «ترامب» صاحب نظريّة «فرض السّلام بالقوّة» وهي نظريّة استكباريّة تقوم على استضعاف الشّعوب وإخضاعهم لشروط إمبراطوريّته.

في مقابل عقيدة «الجدار الحديدي» القائمة على مبدأ الاستيطان والاستعمار بهدف فرض الوجود الصهيوني في منطقتنا عبر الردع العسكري، سعت إيران إلى تطويق الجموح الصّهيونيّ عبر دعم حركات المقاومة، وحصّنت أمنها القومي وفق عقيدة «الجدار السّميك» لحماية نفسها ومبادئها من خطر أميركا و«إسرائيل» عليها.

و«الجدار السّميك» يقوم على بناء شبكة ردع متعدّدة المستويات، تبدأ ببرنامج صاروخيّ باليستي متطوّر، ومنظومة دفاع جوّي، ولا تنتهي بتقاطع المصالح مع حلفاء إيران في الإقليم، وفي مخزونها الاستراتيجي برنامج نووي سلميّ تستطيع تحويله إلى عسكريّ بحال فشل «الجدار السميك» في حماية نظامها وشعبها.

فأين مصلحة لبنان بين الجدارين؟

قالت العرب قديماً: «توضيح الواضحات من الفاضحات»، وبما أنّنا أمام قضيّة بحجم هويّة وطن ومستقبل شعب، سنسلّم جدلاً، بالمساواة بين العدو والصّديق، لنفتح نقاشاً موضوعيًّا نضع فيه الصّراع بين «إسرائيل» وإيران جانباً، ونطرح على أنفسنا أسئلة «مصلحيّة» بعيداً من القناعات المبدأيّة:

أين نحن من هذه المتغيّرات الكبرى؟ أين موقع لبنان ودوره وهوّيته وأمنه القومي وسيادته ومصالحه الحيويّة؟

أما آن لأهل هذا البلد المحكوم بلعنتيه الجغرافية والطّائفية أن يفكّروا، ولو لمرّة واحدة، بمصالحهم ويعيدوا صياغة هوّيتهم بناء على تشخيص واقعي وموضوعي يأخذ بالاعتبار مصير «الأمّة اللبنانيّة» بعيداً من الحسابات الدّاخليّة المثقلة بموروثات مذهبيّة مقيتة؟!

ممّا لا شكّ فيه بأنّ اللّبنانيين تعبوا من «حروب الآخرين على أرضهم» ولا يوجد وطنيّ واحد يرضى بأن يدمّر بلده ويقتل شعبه كرمى لعيون آخر، أيًّا كان هذا الآخر، ولكن، ماذا عن حروب «إسرائيل» على أرضنا وإنساننا وصيغة بلدنا النّقيضة لفكرة يهوديّة الدّولة.

المسؤوليّة التّاريخيّة والأمانة الوطنيّة تقتضي علينا إعادة قراءة الإمام موسى الصّدر، الّذي شخّص الدّاء ووصف الدّواء قبل وقوع كارثة الحرب الأهليّة، ولمّا وضعت أوزارها بعد خمسة عشر عاماً عادوا إليه واقتبسوا منه مقدّمة «اتّفاق الطّائف».

الإمام موسى الصّدر كان إنسانيّ الفكر عروبيّ الانتماء لبناني الهويّة، رأى في «إسرائيل» خطراً بعيداً على الشّرق والغرب، وخطراً قريباً على لبنان، فدعا إلى كلمة سواء تجمعنا: «لبنان وطن نهائي لجميع بنيه»، وإلى تأسيس «مجتمع مقاوم» ضدّ «الشّر المطلق» الخارجي وضدّ الحرمان الدّاخلي ليشعر كلّ مواطن بالعدالة الإجتماعيّة وتكافؤ الفرص على أساس الكفاءة لا الطّائفة.

أمّا فلسطين فهي قضيّة العرب والمسلمين الأولى، وتحريرها واجب ومسؤوليّة الأمّة، أمّا نحن، فواجبنا تحرير أرضنا بكلّ ما أوتينا، «بأسناننا وأظافرنا وسلاحنا مهما كان متواضعاً»، والسّعي الدّائم لتبقى «إسرائيل» هي العدو، لكي لا يأتي يوم تشعر فيه بأنّها جزء طبيعيّ من نسيج المنطقة.

هذه رؤيتنا، ومن لديه رؤية أخرى وتقدير آخر واستراتيجية مختلفة فليطرحها بناء على محدّدات وطنيّة ومعايير إنسانيًة!

ألا وإنّ الكلمة موقف، والموقف سلاح، ومن لم يسعَ، بما استطاع، ولو بالكلمة، لتجنيب وطنه وأهله ويلات ما يحاك له من مؤامرة قد تطيح بوجوده ووجودهم فهو خائن لنفسه ووطنه وأهله ودينه وقوميّته..

المصدر : جنوبيات