مقالات مختارة >مقالات مختارة
تحت المجهر الأميركي - السعودي: هل تستعيد الدولة اللبنانية النقاط الخمس؟


المحامي د. ابراهيم العرب
تشهد الحدود الجنوبية اللبنانية مجدّداً تحركات دبلوماسية متسارعة، مع زيارة مرتقبة للموفد الأميركي الجديد، توم بارّاك، في السابع والثامن من تموز. زيارة تأتي في توقيت بالغ الدقة، وسط تساؤلات عن قدرتها على كسر الجمود القائم، وفتح الطريق أمام انسحاب إسرائيلي طال انتظاره من النِّقَاط اللبنانية الخمس المحتلة.
كما بات من الواضح أن زيارات المسؤولين الدوليين إلى بيروت لم تعد محكومة فقط بالبروتوكولات، بل صارت محمّلة بمهام سياسية حسّاسة تتصل بملفات إقليمية متشابكة. فالزيارتان السابقتان للموفد السعودي يزيد بن فرحان ساهمتا تباعاً في إنجاز الاستحقاق الرئاسي اللبناني بانتخاب جوزاف عون، وفي إعادة ضبط إيقاع العلاقة اللبنانية - السورية، بهدف منع انزلاق لبنان إلى مواجهة إقليمية مفتوحة. أما الزيارة الثالثة فتأتي في ظل تصعيد عسكري متواصل على الجبهة الجنوبية، وفي لحظة إقليمية حاسمة تشهد تصدّعاً في موازين القوى واحتداماً في المفاوضات غير المباشرة بين الأطراف المعنية، لتسلّط الضوء على مسألة سيادية بالغة الحساسية: النِّقَاط اللبنانية الخمس التي لا تزال تحتلها إسرائيل.
إنّ هذه النِّقَاط، الممتدة على طول القطاعات الشرقي والأوسط والغربي، باتت تمثل عنواناً جديداً للصراع، حيث تصرّ إسرائيل على التمسّك بها تحت ذرائع أمنية، متذرعة بضرورات المراقبة وحماية المستوطنات الشِّمالية. إلّا أن التحليل الاستراتيجي يبيّن تراجع القيمة العسكرية لهذه المواقع في ظل التطور التكنولوجي الحربي، ما يجعل هذا الإصرار ذا طابع سياسي بحت، هدفه خلق أمر واقع ميداني قبيل أي تسوية محتملة، وربطه بالملف الأكثر تعقيداً: سلاح حزب الله.
في المقابل، يتعامل لبنان الرسمي مع هذا الملف على أنه جوهر السيادة الوطنية، ويؤكد على حقه غير القابل للمساومة في استعادة كامل أراضيه المحتلة. وقد جاء البيان المشترك الصادر عن الرؤساء الثلاثة في لبنان ليثبّت الموقف الوطني الموحد، متمسّكاً بالقرار 1701، وبمرجعية اتفاق الطائف، ورافعاً شعار المعالجة الدبلوماسية والقانونية، لا سيّما عبر مجلس الأمن. وفي هذا السياق، تتجه الأنظار إلى الرد اللبناني الرسمي على الورقة الأميركية المقترحة، والذي ستُسلَّم نسخته إلى الموفد الأميركي إلى لبنان توم بارّاك خلال زيارته القادمة.
غير أن مفتاح هذا الرد يبقى في يد رئيس مجلس النواب نبيه بري، الذي يلعب دور الوسيط بين الدولة اللبنانية وحزب الله. فالحزب، الذي لم يصدر بعد موقفاً رسمياً، أوكل إلى بري مهمة إدخال ملاحظاته الأساسية، وفي مقدمتها ضرورة الحصول على ضمانات أكيدة بانسحاب إسرائيلي تدريجي من الأراضي المحتلة، ووقف الغارات الجوية وعمليات الاغتيال التي تستهدف كوادره داخل العمق اللبناني. وتشير التسريبات إلى أن الموقف اللبناني المرتقب سيتّسم بالانفتاح المبدئي، لكنه في الوقت ذاته سيشترط التدرّج في التنفيذ والتزامن الكامل بين أي خطوة لبنانية وأي انسحاب إسرائيلي، انطلاقاً من مبدأ المعاملة بالمثل، ورفض فرض شروط مجحفة ترتبط بنزع فوري لسلاح المقاومة أو تعيد إنتاج منطق الاحتلال تحت غطاء تفاوضي.
أما الاستراتيجية التفاوضية لحزب الله، فتعتمد على التفاوض على السلاح شمال الليطاني، وتستند إلى واقع أن الحزب لا يزال يحتفظ بأوراق ميدانية مؤثرة، ما يجعله يفاوض براحة على أي مقايضة بين الأرض والسلاح. فبالنسبة إليه، نِقَاط الجَنُوب المحتلة ليست مجالاً لمناورة تفاوضية، بل هي امتداد طبيعي لمعركة تحرير لم تنتهِ بعد، وهو يصرّح بأنه مستعد للمضي في مواجهة طويلة الأمد ما لم تُرفق المقترحات الغربية بضمانات واضحة تحفظ حقوق لبنان وسيادته.
وفي موازاة هذا المشهد، يبرز الدور السعودي كعنصر ضاغط ومتقدّم في الملف اللبناني، بدعم أميركي وفرنسي، ما يضفي على التحرك طابعاً دولياً وإقليمياً متماسكاً. إلّا أن فعالية هذا الضغط تبقى رهينة بالموقف الإسرائيلي، الذي يزداد تعقيداً في ظل الانقسام الداخلي العميق في تل أبيب، والأزمات السياسية التي تحاصر حكومة بنيامين نتنياهو. فصناعة قرار الانسحاب في إسرائيل تتطلب توافقاً على ثمن سياسي وأمني قد لا يبدو متوفراً بسهولة حالياً، خاصة لارتباط الملف بمسائل استراتيجية كتفكيك بنية حزب الله العسكرية.
وفي هذا الإطار، ربما يُطرح مستقبلاً ما يُعرف بمقاربة «وقف العدوان مقابل إعادة الإعمار»، أي محاولة تمرير حل سياسي يتضمّن وقف العدوان على الجنوب، مقابل ترتيبات أمنية جديدة قد تطال آليات انتشار الحرب في مناطق محدّدة. وربما المقاومة، التي خاضت حروباً متعددة مع إسرائيل، قد تظهر مرونة لهذا النوع من الصفقات، لا سيما حين يتعلّق الأمر بربط حقوق لبنانية سيادية بملفات إقليمية معقّدة لا تتصل مباشرة بجوهر النزاع الحدودي.
في المحصلة، قد تنجح الضغوط الأميركية والسعودية في فتح نافذة تفاوضية ضيقة، تُمهّد لمسار انسحاب تدريجي من الجنوب اللبناني، شرط أن تقترن بتفاهمات واضحة وواقعية تراعي تعقيدات الداخل اللبناني وتشابك المصالح الإقليمية. لكن الرهان الحقيقي يبقى على قدرة الأطراف اللبنانية على الحفاظ على موقف موحّد، وتقديم رؤية وطنية متكاملة تفرض نفسها على طاولة المفاوضات. فالكرة، وإن كانت في الملعب اللبناني، تبقى مرهونة بتقاطع الإرادات الإقليمية والدولية، التي قد تفتح الباب أمام تسوية طال انتظارها، أو تعيد خلط الأوراق نحو جولة جديدة من التصعيد. وبين هذا وذاك، تظلّ القضية الأساسية هي استعادة السيادة اللبنانية الكاملة، بلا شروط ولا مقايضات، في ظل صراع طويل لم يقلّ وهجه، وإن تغيّرت أدواته وأولوياته. فهل تثمر هذه الضغوط أخيراً، أم أنها مجرد فصل جديد من فصول الانتظار؟