8 صفر 1447

الموافق

السبت 02-08-2025

علم و خبر 26

أخبار

علم و خبر 26

بأقلامهم

بأقلامهم

"مصطفى العوجي… العلّامة الذي لا يُنسى"!
"مصطفى العوجي… العلّامة الذي لا يُنسى"!
القاضي م جمال الحلو
2025-08-01

1,354

حين يُذكر اسم القاضي البروفسور مصطفى العوجي، يقف العقل والوجدان معًا أمام سيرة قضائيّة وعلميّة ناصعة، سيرة رجلٍ لم يكن مجرّد موظف في بلاط العدالة، ولا أستاذًا عابرًا في مدارج التّعليم العالي، بل كان ركنًا من أركان الفكر القانونيّ اللبنانيّ والعربيّ، وعلّامةً في القضاء، جمع بين دقّة القانون وعمق الفلسفة، وبين نزاهة القاضي وهيبة المعلّم.

وُلد مصطفى العوجي ليكون مختلفًا، متفوّقًا في علمه، راقيًا في خُلقه، وأصيلًا في تعاطيه مع النّاس والمهنة. تنقّل في السّلك القضائي، قاضيًا ومستشارًا ورئيسًا لمحكمة التّمييز، تاركًا في كلّ محطة بصمة لا تُمحى، ومواقف تُروى، وأحكامًا اتّسمت بالحكمة والعدالة والجرأة المسؤولة. لم يكن القضاء بالنسبة له مهنة أو وظيفة، بل رسالة سامية يؤمن بأنها جزء من بناء المجتمع والدّولة، ولذلك حرص على أن يكون صوته صادقًا، وقلمه حرًّا، وضميره حيًّا.

لكن عظمة العوجي لم تكتمل فقط في ردهات المحاكم، بل لمع اسمه أيضًا في الجامعة اللبنانية، حيث درّس أجيالًا من طلاب الحقوق، وأشرف على عشرات أطروحات الدكتوراه والماجستير، فكان أستاذًا لا يعلّم فقط، بل يربّي ويوجّه ويرتقي بطلبته نحو آفاق البحث الحقيقيّ والنقد البنّاء. ومن خلال درايته العميقة بالقانون المقارن والأنظمة الدستورية، أصبح مرجعًا لا يُستغنى عنه في قضايا الدولة والمؤسسات والحرّيّات العامّة.

أمّا مؤلّفاته، فهي مرآة لعقله المتّقد ونظرته الثّاقبة. كتب في القانون المدني، والجزائي، وعلم الجريمة والعقاب، والنّظام القضائي، وترك إرثًا فكريًا مميّزًا جمع فيه بين الأصالة الفقهيّة والحداثة العلميّة، بأسلوبٍ مبسّط وموثوق جعل كتبه من المراجع المعتمدة في الكلّيات ومعاهد القضاء.

لقد تميّز القاضي مصطفى العوجي بصفات لا تجتمع كثيرًا: 
رصانة العالم، وهيبة القاضي، وتواضع الإنسان. لم تغرِه المناصب، ولا بهرته الأضواء، بل بقي وفيًّا لقلمه وعقله ومبادئه، ومخلصًا للبنان الذي آمن به وطنًا يستحق العدالة والعلم والنهضة.

برحيله، خسر القضاء اللبنانيّ أحد أنبغ عقولِه، وخسرت الجامعة أحد أنبل أساتذتها، وخسر الطلاب أبًا علميًا وأخًا كبيرًا ومرشدًا نادر المثال. لكن الكبار لا يرحلون فعلًا، بل يعيشون في ذاكرتنا، وفي مؤلفاتهم، وفي الأثر الطيب الذي لا يبهت.

سيبقى اسم مصطفى العوجي محفورًا في سجل الشّرف الوطنيّ، وفي قلوب من عرفوه وعملوا معه وتعلّموا على يديه.

هو حقًّا... العلّامة الذي لا يُنسى.

جنوبيات
أخبار مماثلة