في عالمٍ تتصارع فيه الأصوات، وتضيع الحقيقة وسط ضجيج المصالح، تظلّ هذه العبارة الخالدة:
"الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه"، بمثابة نورٍ في نفقٍ معتم، وبوصلة لمن ضلّ الطّريق، ومرآةٍ صادقة تعكس جوهر العدالة الكونيّة.
فالحقّ ليس صوتًا مرتفعًا، ولا قوةً غاشمة، بل هو سكونٌ عميق يسكن الضّمير، وقناعة راسخة تتجاوز الزّمان والمكان. قد يُؤخّر ظهوره، وقد يُحاصَر، وقد يُشوَّه بأقلام مأجورة أو أبواق مغرضة، لكنّه لا يموت.
فالحقّ لا يُخلق، لأنّه كان منذ الأزل؛ ولا يفنى، لأنّه من سنن الكون، متجذّرٌ في فطرة الإنسان، مزروعٌ في أعماق الوجود.
الحقّ هو في ميزان التّاريخ:
كم من ظالمٍ ظنّ نفسه مخلَّدًا، فأسقطه التّاريخ كصفحةٍ عابرة!
وكم من مظلومٍ ظنّه النّاس مهزومًا، فإذا به يتحوّل إلى رمزٍ خالد يكتب اسمه في دفاتر الخلود!
فبطْش فرعون لم يُبقِ له هيبة، ونهاية قارون كانت عبرة، والطّغاة الذين عاثوا في الأرض فسادًا سقطوا واحدًا تلو الآخر، ليس لأنّهم أضعف من غيرهم، بل لأنّهم وقفوا ضدّ الحقّ.
إنّ الحقّ لا يحتاج إلى أن يُجمَّل، فهو جميلٌ بذاته. لا يحتاج إلى حشدٍ، لأنّه يتحدّث لغةً يفهمها القلب قبل العقل.
ومن يقف إلى جانب الحقّ، لا يخشى الوحدة، لأنّ الله معه.
ومن ينصر الحقّ، لا يحتاج إلى مبرّرات، لأنّ الحقّ لا يُشرح، بل يُعاش.
إنّها معركة مستمرّة:
الحياة ليست ساحةً محايدة، بل هي ميدانٌ مفتوح لمعركة أزليّة بين الحقّ والباطل، بين العدل والجور، بين الضّمير والمصلحة.
وهذه المعركة ليست دائمًا صاخبة؛ أحيانًا تكون في قراراتك اليوميّة، في صمتك أمام الظّلم، في كلمة حقّ تقولها حين يسكت الجميع، في وقوفك بجانب من لا يملك صوتًا.
الحقّ ليس حكرًا على أحد، ولا يُقاس بالقوّة أو الكثرة، بل بمدى اتّساقه مع المبادئ العليا التي لا تتبدّل.
هو ميزانُ الإنسانيّة، وعصب العدالة، وروح الدّين.
حين ينطق الحقّ، يسقط الزّيف، وتنكشف الأقنعة، وتنهار الأبراج المبنيّة على باطل.
وحين يُمهل الله للظالم، فليس لأنّه يُجلّه، بل لأنّ ساعة الحقّ آتية لا محالة، وقدرها أن تنتصر ولو بعد حين.
الحقّ لا يحتاج إلى ضجيج، بل إلى ثبات.
لا يحتاج إلى تبرير، بل إلى ضمير.
ولا يحتاج إلى انتصار سريع، بل إلى إيمان طويل النّفس.
صفوة القول:
في زمنٍ تكثر فيه الوجوه ويقلّ الوجدان، وتبهت القيم وتلمع الشّعارات، نحتاج إلى أن نعود إلى هذه القاعدة الذّهبية:
"الحقّ يعلو ولا يُعلى عليه"، لا كشعارٍ نردّده، بل كمنهجِ حياة، وكحقيقةٍ نعيش بها، ونموت من أجلها إن لزم الأمر.
لأنّ من أجل الحقّ تُبنى الأمم، وبالحقّ تُهدم العروش الزّائفة.
ولأنّ الحقّ، في نهاية المطاف، لا يعلو عليه شيء… ولا ينبغي له أن يُعلى عليه.