فِي وَقْتٍ يَحْتَاجُ فِيهِ لُبْنَانُ إِلَى لَحَظَاتٍ صَادِقَةٍ تُلَمْلِمُ جِرَاحَهُ وَتَرْأَبُ صُدُوعَهُ، جَاءَتْ دَعْوَةُ الصَّحَافِيِّ بَسَّامٍ عَفِيفِي إِلَى مَأْدُبَةٍ فِي "بَيْتِ الجَبَلِ" كَمُبَادَرَةٍ تُقَرِّبُ المَسَافَاتِ بَيْنَ أَطْيَافِ المُجْتَمَعِ، وَتَبُثُّ رُوحَ الأُلْفَةِ وَالمَحَبَّةِ فِي زَمَنٍ أَشَدَّ مَا يَكُونُ فِيهِ الوَطَنُ بحَاجَةٍ إِلَيْهَا.
لَيْسَتِ اللِّقَاءَاتُ المُتَواصِلَةُ بَيْنَ رُمُوزِ الدِّينِ وَالوَطَنِ مَجَرَّدَ مَحَافِلَ تَجْمَعُ الأَشْخَاصَ عَلَى مَائِدَةٍ مُتَّسِعَةٍ، بَلْ هِيَ ـ فِي جَوْهَرِهَا ـ مَجَالِسُ تَتَفَتَّحُ فِيهَا الأَرْوَاحُ عَلَى مَعَانِي الأُلْفَةِ، وَتَتَسَامَى فِيهَا النُّفُوسُ فَوْقَ صَغَائِرِ الخِلَافِ.
وَإِذْ دَعَا الصَّحَافِيُّ بَسَّامُ عَفِيفِي إِلَى مَأْدُبَةٍ فِي "بَيْتِ الجَبَلِ"، لَمْ يَكُنْ يُرِيدُ ـ فَحَسْبُ ـ أَنْ يُكْرِمَ سَيِّدَيْنِ جَلِيلَيْنِ، المُفْتِي العَامَّ لِلجُمْهُورِيَّةِ وَشَيْخَ العَقْلِ، بَلْ أَرَادَ أَنْ يَجْمَعَ الأَطْيَافَ المُتَبَاعِدَةَ عَلَى مَائِدَةِ الحُبِّ الوَطَنِيِّ، وَيَسْتَخْلِصَ مِنْ ذَلِكَ رُوحًا جَدِيدَةً تُعِيدُ التَّرَابُطَ إِلَى أَوْصَالِ الجَسَدِ اللُّبْنَانِيِّ.
فَالوَطَنُ، وَهُوَ المُثْخَنُ بِالْجِرَاحِ، أَحْوَجُ مَا يَكُونُ إِلَى مِثْلِ هَذِهِ اللَّحَظَاتِ الَّتِي يَتَنَاسَى فِيهَا النَّاسُ مَطَامِعَهُمْ الضَّيِّقَةَ، وَيَسْتَحْضِرُونَ الوَاحِدَ الكَبِيرَ: لُبْنَان. وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَجْلِسَ المُسْلِمُ وَالمَسِيحِيُّ وَالمُوَحِّدُ وَسَائِرُ أَبْنَاءِ الطَّوَائِفِ عَلَى طَاوِلَةٍ وَاحِدَةٍ، يَتَبَادَلُونَ الكَلِمَةَ الطَّيِّبَةَ، فَتُصْبِحُ الكَلِمَةُ جِسْرًا، وَالحَدِيثُ نَفَسًا، وَالعِشَاءُ عَهْدًا.
إِنَّ مِثْلَ هَذِهِ المُبَادَرَاتِ تَكْسِرُ جُمُودَ القُلُوبِ، وَتُذِيبُ جَلِيدَ التَّبَاعُدِ، وَتُرْسِي أُسُسًا جَدِيدَةً لِلثِّقَةِ بَيْنَ الأَطْرَافِ. وَهِيَ، وَإِنْ بَدَتْ فِي مَظْهَرِهَا بَسِيطَةً، فَإِنَّهَا فِي مَعْنَاهَا أَشْبَهُ بِالفرحة الأُولَى لِبَدْءِ مَوْسِمِ الحَيَاةِ بَعْدَ هَوفِ الشِّتَاءِ.
فَشُكْرًا لِلصَّحَافِيِّ بَسَّامٍ عَفِيفِي، الَّذِي أَدْرَكَ بِبَصِيرَتِهِ أَنَّ القَلَمَ لَا يَقِفُ عِنْدَ حُدُودِ المَقَالِ، بَلْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَتَجَسَّدَ فِعْلًا وَوَاقِعًا. وَهَذَا هُوَ المَعْنَى العَمِيقُ لِلصَّحَافَةِ الحَقَّةِ: أَنْ تَكُونَ جِسْرًا، لَا صَدًى، وَأَنْ تَكُونَ فِعْلًا، لَا صُورَةً.
وَلَعَلَّنَا نَخْتِمُ بِحَقِيقَةٍ أَبَدِيَّةٍ: مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ عَلَى المَحَبَّةِ إِلَّا وَكَانَتْ بَرَكَةُ اللَّهِ فِيهِم، وَمَا تَنَازَعُوا إِلَّا وَكَانَتِ الفِتْنَةُ وَرَاءَهُمْ. فَلْنَجْعَلِ المَحَبَّةَ عُنْوَانَ طَرِيقِنَا، فَهِيَ أَصْدَقُ مَا يُجَدِّدُ الأُمَمَ، وَأَمْتَنُ مَا يَرْبُطُ الأَصْدَاعَ.