عام >عام
شهر رمضان فلسفة عقيدة ومساحة تعايش
شهر رمضان فلسفة عقيدة ومساحة تعايش ‎الجمعة 16 06 2017 10:39
شهر رمضان فلسفة عقيدة ومساحة تعايش

سماحة الشيخ محمّد عسيران

{لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ، ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعاً فينبئكم بما كنتم تختلفون} (المائدة 48)
في رحاب شهر الصيام شهر التقرب إلى الله سبحانه وتعالى والطاعة والعبادة، شهر المغفرة والرحمة لا أجد باباً يفتح للصائم في حصون الإيمان، ورياض التقوى أفضل من ذلك الذي يدخله في حالة من الرضى النفسي والعلاقة السليمة مع الله سبحانه وتعالى، وعينت به باب احترام الإنسان وحب الإنسان لأخيه الإنسان، هو باب الوسطية والإعتراف بالآخر وقبوله على ما هو عليه من كيان ومعتقد وخصوصية، ليقول الامام علي: «لا تكونن عليه سبعاً ضارياً تغتنم أكله، فإنهما اثنان إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق».
لقد جاء النبي # إلى أمة كانت تعيش الشحناء والغزو ويغمرها التعصب والبغضاء، جاء إليهم بالاسلام الذي ألَّف بين قلوبهم ويزرع بذور المحبة والتسامح في نفوسهم، فأفشى السلام بينهم وجعل منهم أمة وسطاً تعيش في عالم تتنوع فيه الأمم وتتعدد فيه الديانات.
إن الوسطية قيمة ربانية أصيلة ومنهج قرآني متميز وهدي نبوي كريم، انطلاقاً من أن الوسطية تعني العدل وتعني الخيار، وتعني الصراط المستقيم، وتعني التوافق الإيجابي الذي يجنب المرء الوقوع في أحد النقيضين الافراط والتفريط {والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان}. «الرحمن 7 9 »
والصيام مدرسة الاستقامة، ومعهد الوسطية والعدل والتوازن الإيجابي، إذ أن الصائم يترفّع عن الشهوات ويبتعد عن الظلم ويفشي المحبة والسلام بين أفراد المجتمع، فيكون مثالاً يُحتذى وقدوة صالحة، ليس الصيام الانقطاع عن الأكل والشرب فقط بل الصيام هو الطاعة والترقي بالنفس إلى أسمى مراتب الكيان البشري ما يجعلها تشاطر من حولها أفراحهم و أحزانهم، نجاحاتهم، فشلهم، فيكون بينها وبينهم جسور محبة وتعاون لا تناحر وتشاحن.
ما أحوجنا اليوم في المجتمع الى تلك القيم الرمضانية، الى المعاني الربانية للصيام حتى تزيل الغشاوة عن أعين أرمدها الجهل وأعماها التعصب في زمن تتجاذبه تيارات التطرف والغلو الديني من جهة، وتيارات الغلو اللاديني من جهة أخرى. وبتنا نعاني في كل أصقاع الأرض بلا استثناء من هذه الآفات الخلقية والاجتماعية والدينية التي تقضّ مجتمعاتنا وتمسّ معتقداتنا في الصميم، فأنصار الغلو الديني ماضون بالتكفير والتفجير واتباع الغلو اللاديني غارقون بالتسيّب والتفلّت وتدمير الأمة بنقض ثوابتها وهدم معتقداتها وانقطاعها عن موروثها الحضاري، ومن هنا فإن الخطاب الوسطي الرمضاني، هو خطاب رباني بامتياز، خطاب قرآني {يحق الحق ويمحو الباطل ولو كره الكافرون}، هو خطاب الوسطية التي أرادها الله لنا في حياتنا ومعتقدنا، في صيامنا وقيامنا، في علاقتنا مع الآخر وعلاقة الآخر بنا.
{وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على النّاس ويكون الرسول عليكم شهيداً} (البقرة 143).
هذه الوسطية التي يخبرنا عنها القرآن الكريم تتقدّم الفكر الإسلامي خطاباً مرتبطاً بالقيم الإنسانية موصولاً بالواقع المعيشي، منفتحاً على التجديد، جامعاً بين العقل والنقل، مستلهماً من الماضي، معايشاً للحاضر، مستشرفاً للمستقبل، محافظاً في الأهداف، مطوراً في الوسائل، منفتحاً على الحضارات بلا ذوبان مع الآخر ولا إذابة للآخر، مراعياًللخصوصية بلا انغلاق، مرحباً بكل قديم صالح، ومنتفعاً بكل جديد نافع، ملتمساً للحكمة والصواب.
{وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} (الانعام 153).
الأصل الانساني واحد. وجميع البشر مكرمون عند الله والاختلاف والتنوع والتعدد في اللغات والألوان من آياته، ومعجزاته للعالم والتعددية هي الاصل في الحياة والطريق الى التعايش بين أبناء البشر.
{يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان اكرمكم عند الله اتقاكم}(الحجرات 13).
عسانا نستلهم من هذا الشهر الفضيل المزيد من القيم والحكمة فنخرج من مدرسة شهر رمضان ونحن في العشر الأواخر منه، متزودين بزاد التقوى والايمان متسلحين بسلاح الدفاع عن قيمنا الاسلامية والكلمة الحسنة والقول الحسن والفعل الحسن.

* مفتي صيدا الجعفري