عام >عام
رحيل أقدم مصور صيداوي هاشم المدني
ما زال الاستديو القديم على حاله ويحتفظ بأرشيف نادر لصور سياسيين وفنانين
هاشم المدني: صور الأسود والأبيض أجمل لأنها تخفي العيوب
رحيل أقدم مصور صيداوي هاشم المدني ‎الثلاثاء 8 08 2017 13:19
رحيل أقدم مصور صيداوي هاشم المدني
المصور الصيداوي أمام كاميراته القديمة


قبل رحيل المصور الصيداوي هاشم المدني أجريت الزميلة ثريا حسن زعيتر حواراً معه بتاريخ 19 كانون الأول/ديسمبر 2006، تحدث فيه عن الحنين إلى الماضي بذكرياته وتاريخه، تخلده صورة بالأبيض والأسود، وأرشيف لم يأكل عليه الدهر أو يشرب كما تجري العادة مع حياة الإنسان والأشياء.

تمر الأيام والسنون، وتبقى الصورة سواءً كانت بالأبيض والأسود أو الملون، شاهداً على الحنين والذكريات والتاريخ، وتتحول "الكاميرا" في يدي محترفها إلى ريشة، والمصور إلى فنان، والإستديو إلى محترف فني، فالتصوير فنٍ راقٍ وإبداع يصنع الصورة بتفاصيلها لتخلد بجمالها وتخلد صاحبها من النسيان.
والصورة وفق هؤلاء المحترفين من المصورين ليس مجرد "لقطة" أو إطار - "برواز"•• وانما نافذة للعودة إلى الماضي بوصفها أرشيفاً خالداً، و"باب" الحاضر للدخول إلى المستقبل على اعتبارها مهنة لكسب العيش الكريم من جهة، وتأريخاً لمرحلة معينة من حياة الشعوب وعصور الأوطان، من جهة أخرى.
ومن بين هؤلاء المصورين الصيداوي هاشم محمد المدني، الذي يعتبر أقدم مصوري المدينة، بعدما إحترف المهنة في العام 1948، ومازال حتى اليوم يحتفظ بالاستديو القديم كما هو، بأبوابه الخشبية وأرشيفه النادر، والنيغاتيف الذي رتبه في صفوف وفق السنين•
والمدني، الذي يعتز انه بات يجمع بين الأبيض والأسود والملون، يؤكد دوماً في مجالسه الخاصة والعامة "أن الصورة القديمة أجمل"•• هذه الصورة التي اختارته ليشارك في عدة معارض في لبنان وفرنسا ولندن، كتبت عنه الصحف والمجلات العربية والغربية كواحد من الذين يؤرخون تاريخ المدينة بالصورة القديمة.
"لـــواء صيدا والجنوب" حط رحاله في "الإستديو" العتيق، حيث روى المدني ذكرياته مع الصورة والكاميرا والتاريخ ورجال السياسة والفنانين.

البداية: بين فلسطين والمنزل

يعتز هاشم محمد المدني (75 عاماً) بأنه آخر مصوري الرعيل الأول في صيدا، الذي إحترف مهنة تصوير الأبيض والأسود وانه مازال يمارسها في الإستديو القديم الكائن في شارع رياض الصلح الرئيسي قبالة "اشارة صيدا"•
ويقول: بدأت مهنة التصوير حين كان عمري 17 عاماً، وتحديداً في العام 1948، بعدما عدت من فلسطين اثر النكبة، لقد تعلمتها هناك منذ العام 1946 على يد مصور أرمني يدعى "كاتس" ثم أبراهيم الحمودي في طولكرم، وعندما وقعت النكبة واحتلت حيفا ويافا، ذهبت إلى الأردن، ومنها إلى بيروت، ثم صيدا، حيث زاولت هذه المهنة•
وأضاف: في ذلك الوقت لم يكن في المدينة سوى مصورين اثنين فقط هما المرحومان "أنيس السوسي وأحمد عارف المجذوب"•
واستعاد المدني ذكرياته الأولى مع بداية عمله، فتنهد قائلاً: "أذكر كل شيء حتى الآن وكأنني مازلت أعيش الأمس، باشرت التصوير في إحدى زوايا المنزل، كان الناس يقصدونني قبل أن افتتح "الإستديو" في العام 1953 قرب "اشارة صيدا"، هو على حاله حتى الآن، وأول "كاميرا" استخدمتها كانت "بوكس" - (6 * 9)، ثمنها في ذلك الوقت 12 ليرة لبنانية، وكنت أتقاضى ليرتين ونصف الليرة على نصف دزينة من الصورة (6 صور بالأبيض والأسود)، أما على الصورة الواحدة فكنت اتقاضى ربع ليرة، ولم يكن التسليم فورياً كما هو الحال الآن، فالمستعجل كثيراً نسلمه الصور في اليوم الثاني، أما العادي فقد ينتظر يومين أو ثلاثة، وأحياناً اسبوعاً وفق ازدحام العمل الذي بين يدي"•

الاستديو القديم: ذكريات وصور

ويحرص المدني على ابقاء "الإستديو" على شاكلته الأولى، تدخل إليه عبر باب خشبي كبير كتب عليه اسمه بخط اليد، وتزدان غرفة الإستقبال بعشرات الصور الكبيرة التي احتفظ بها كشاهد على تاريخه وابداعه، تعبق رائحة المواد التي يستخدمها في تظهير الأفلام داخل مختبر صغير تقطعه طولاً وعرضاً حبل لتعليق الصور مع "الملاقط"، إلى جانب آلة طباعة حديدية قديمة•••
كراسٍ خشبية وطاولة متواضعة تصدرت المكان، الذي يوصل إلى غرفة الأرشيف الوسطى، قبل الوصول إلى قاعة التصوير التي يشعر المرء فيها وكأنه يعيش في منتصف القرن الماضي، كاميرا كبيرة وانارة و"فلاشات" وجدارية مشهد تخرقها أشعة الشمس من احدى النوافذ الجانبية•
يقول المدني: أردت أن يبقى كل شيء على حاله، هنا أشعر بالتراث والتاريخ، كما أن الشركة العربية للصورة طلبت مني عدم تغيير أي شيء في "الاستديو" و"الصورة"، انهم يأخذون الأفلام ويظهرون ما يعجبهم من صور ولقطات ثم ينظمون المعارض•
وأكد "أن إبقاء الاستديو على حاله لا يعني أنني ضد التطور والتكنولوجيا، أعتزم افتتاح "استديو" جديد قرب منزلي، سأدخل عليه تقنيات الكومبيوتر والموضة الحديثة، كنت أرغب في أن يحترف أي من أولادي هذه المهنة، لكنهم رفضوا، لدي ولدان مهندسان في الكومبيوتر أحدهما في أميركا والثاني في كندا، وإذا اعطاني الله عمراً، فإنني لن أتوانى عن جمع الحداثة والقديم لاقدم نموذجاً مبتكراً في إبداع الصورة وجماليتها"•

سياسيون وفنانون ومواطنون

ويروي المدني "كنت أصور داخل الاستديو وخارجه حين الطلب، أتذكر انني التقطت صوراً كثيرة لسياسيين، وأبرزهم: المرحوم الدكتور نزيه البزري والشهيد معروف سعد وخاصة في الحملات الإنتخابية عام 1972"•
ويقول: عندما كان يزور أي فنان مشهور المدينة، كنت التقط له صوراً كذكرى، منهم "وحش الشاشة العربية" - فريد شوقي و"الشحرورة" - صباح، والفنانة طروب وأبو ملحم ومحمد أمين وسواهم، مازلت أذكرهم جميعاً••
ولا يُُخفِي أن أجمل صورة تلك التي التقطها للسيدة فران (زوجة صاحب بنك الفران آنذاك وهي بولندية)، إذ جاءت إليه وقالت له "لقد تصورت كثيراً ولم يعجبني أي منها"، وأردفت "إذا اعجبتني الصور أدفع لك"، فيقول المدني "قبلت التحدي وكان وجهها جميلاً، صورتها بإتقان ونالت إعجابها وسعادتها، ودفعت ما يستحق عليها ومازلت احتفظ بصورتها حتى الآن"•
وشدد على "أن التصوير فن راقٍ، انظر إلى الإنسان ووجهه وأرى الجانب الأنسب لجهة التصوير قبل التقاط الصورة له، أحاول دوماً اخفاء عيوب الوجه، كأن يكون الأنف طويلاً، أو العين ضيقة أو الأذن كبيرة، اختار الجانب الأنسب كي تبدو الصورة طبيعية، فيشعر صاحبها بسعادة ويقول لغيره فأزداد شهرة"•
ويشير إلى انه داخل قاعة التصوير يشعر بالإرتياح، ويحاول دائماً الإبداع، مهما تعلمت مازلت احتاج إلى المزيد، هناك مصورون برعوا أكثر مني، وأسعى إلى كسب الخبرة والإتقان والشهرة، التي هي برأيي تراكم عمل سنوات وإبداع••

أرشيف نادر

ويحتفظ المدني حتى اليوم بآلاف "النيغاتيف" في أرشيفه القديم النادر الذي نظمه في صفوف متتالية وفق السنين، إلى جانب كاميرا قديمة لعرض الأفلام المتحركة كان "يشغلها" في المدارس لعرض الأفلام الوثائقية بناء على طلب اداراتها التعليمية••
ويشير إلى "أن هناك اقبالاً على التصوير القديم أي بالأبيض والأسود، ثمة مواطنون مازالوا يفضلون هذه الصور لأننا نستطيع اجراء "رتوش" طبيعية عليها، أو أن نحولها إلى لوحة زيتية، والفرق بين الصور هذه والملونة، إخفاء العيوب حتى يبدو الإنسان على أجمل شكل له"•
ويعترف المدني "أن هذا الإقبال لم يمنعه من ادخال الصور الملونة على "الإستديو"، إذ اشترى منذ أشهر قليلة كاميرا ديجتال صغيرة مع طابعة فورية لها، وبات يجمع بين الصورتين معاً، ويقول "أتقاضى حالياً على نصف الدزينة الملونة 5 الاف ليرة لبنانية وعلى الأبيض والأسود 8 آلاف، أما على الصورة الكبيرة نحو 50 ألف ليرة لأنني ادخل عليها "الرتوش" وأجعلها كلوحة زيتية"••
ويرفع داخل "الاستديو" العشرات من الصور القديمة، المختلفة الأحجام، صغيرة ومتوسطة وكبيرة، وقد أدخل على بعضها تعديلات جمالية، كأن ألبس احدى السيدات قرطاً، وأخرى عقداً، في وقت لم يكن فيه هذا الإبداع متعارفاً عليه في العام 1955 ••
وبين هذه الصور واحدة للدكتور نزيه البزري الذي كثيراً ما صوره في منزله وأثناء الحملات الإنتخابية كما فعل مع الشهيد معروف سعد، وهي تتداخل مع صور عدد من الفنانين، أبرزهم "الشحرورة" صباح وطروب وأبو ملحم، إضافة إلى صورة له مع والده المرحوم الشيخ محمد المدني وشقيقه•

معارض وشهرة

ويفتخر المدني الذي مازال يتمتع بذاكرة قوية تمكنه من احضار أي "نيغاتيف" يريده في غضون لحظات قليلة، "أن العديد من الصحف العربية والأجنبية كتبت عنه كواحد من محترفي فن التصوير القديم في لبنان، بعدما شارك في عدة معارض، لفتت صوره المعروضة فيها انتباه ممثلي وسائل الإعلام"•
ويقول: لقد شاركت في عدة معارض، في فرنسا عام 2004 وفي لندن عام 2005 ، وفي بيروت وبيت الدين وفي اسبانيا عام 2006، عرضت الأسود والأبيض ومازالت احدى هذه الصور ترفع في معرض فرنسي بطول مترين ونصف المتر وعرض متر ونصف المتر كأجمل صورة لبنانية قديمة•
ويروي أن صورة التقطها لصيداوي من القناية كان يعمل في "التابلاين" وهو يرفع ولده على يده وكأنه يطير في الهواء، نالت اعجاب الحاضرين في معرض لندن عام 2005 ، طبع منها 50 نسخة، وبيعت الواحدة منها وهي بقياس (30 * 40) بـ 200 دولار أميركي••
وقال: في كل المعارض التي شاركت فيها، كنت محل تكريم وتقدير، لأنني مازلت احتفظ بهذا الإرث القديم من "النيغاتيف" والصور، وهما شاهدان على حقبة هامة من تاريخ لبنان، بينما هذه الصور انقرضت في الدول الغربية، لقد كتبت عني مجلة ايطالية وعرض صوري ونبذة عن حياتي، اضافة إلى مجلات عربية ولبنانية وسواهما•
وأضاف: ان هذه المعارض وكل التكريم كان يدفعني دوماً إلى المزيد من الرغبة في الإبداع وإتقان العمل، لأن الإنسان يشعر بسعادة وهو يُكرَّم تقديراً لفنه وابداعه وتصويره، واعترافاً بالقيمة الجمالية والتاريخية•

نصيحة إلى المصورين الشباب

وينفي ان يكون قد شعر في يوم من الأيام بأن أياً من المصورين وأصحاب الاستديوهات الكثيرة في صيدا قد نافسه في عمله، يقول: "أبداً، لا أشعر بمثل هذه المنافسة، لأن الذين نافسوني قديماً قد توفوا، والباقين لا يحترفون تصوير الأسود والأبيض"••
ويختم المدني بتوجيه نصيحة إلى مصوري اليوم من جيل الشباب "بأن يتقنوا عملهم إذا أرادوا النجاح والإستمرار، وأن لا يكون الكسب المادي هو الهدف، لأنه يزول ويبقى الإرث والذكرى، كل مصور يستطيع أن يحقق نجاحاً على طريقته إذا أحب مهنته وتفانى في سبيلها خاصة مع كل التطور الآن"

حرقة من سرقة


مازال هاشم المدني يشعر بغصة وحرقة عندما يتذكر الاجتياح الإسرائيلي للبنان في حزيران من العام 1982، إذ تعرض "الإستديو" إلى السرقة، فقد خلع أحد الأشخاص الأبواب وسرق كل الموجودات فيه من آلات تصوير وأفلام وتجهيزات، لم يبقَ سوى الطاولة والكرسي وأرشيفه من النيغاتيف•• لكن المدني الذي اشترى كل هذه بعرق الجبين لم يسامح، ورفع دعوى على الشخص السارق، الذي يعرفه بالإسم وهو مازال في المانيا منذ ذلك التاريخ•

 

 

 

مختبر التظهير القديم والنجاتيف

ويحمل نسخة عن صحيفة غربية

 

ويشرح للزميلة ثريا حسن زعيتر تاريخ صوره القديمة

المصدر : اللواء