عام >عام
الرئيس عون من أعلى منبر دولي: لن نسمح بتوطين أيّ لاجئ أو نازح والقرار لنا
الخميس 21 09 2017 20:02جنوبيات
من على أعلى منبر دولي، أطلّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وألقى كلمة لبنان أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مؤكّداً أنّ لبنان تمكّن بجميع قواه من القضاء على الإرهاب تدريجياً، وأنّ الجيش أنهى الوجود العسكري لـ"داعش" و"النصرة" ومتفرعاتهما في الوطن". وشدّد على أنّ "الحاجة ملحّة لتنظيم عودة النازحين بعد استقرار الوضع في معظم أماكن سكنهم الأولى".
ودعا رئيس الجمهورية الأمم المتحدة إلى "مساعدة النازحين على العودة إلى وطنهم بدلاً من مساعدتهم على البقاء في مخيمات لا يتوفّر فيها الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة". وقال: "لا يمكن تصحيح جريمة طرد الفلسطينيين بإنكار حق العودة عليهم وبفرض التوطين على اللبنانيين". وشدّد على أنّ "لبنان لن يسمح بالتوطين لا للاجئ أو لنازح مهما كان الثمن والقرار في هذا الشأن يعود لنا وليس لغيرنا".
وجاء في كلمة عون التالي:
"معالي السيد ميروسلاف لاتشاك رئيس الجمعية العامة،
سعادة أمين عام الأمم المتحدة السيد أنطونيو غوتيريس،
السادة رؤساء الدول والحكومات،
السيدات والسادة.
يسعدني بداية أن أهنئكم حضرة الرئيس ، على توليكم رئاسة الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الحالية وأتمنى لكم التوفيق فى مهامكم. كما أود أن أتوجه بالشكر لمعالي السيد بيتر طومسون على حسن إدارته للدورة السابقة. وأحيي أيضاً سعادة الأمين العام السيد غوتيريس وجهوده لتفعيل دور منظمة الأمم المتحدة.
سيادة الرئيس،
نحن اليوم في نيويورك، وفي شهر أيلول، ولا بد أن تعود بنا الذاكرة ستة عشر عاماً الى الوراء حين ضرب الإرهاب هذه المدينة موقعاً آلاف الضحايا. ونجدد من على هذا المنبر تضامننا مع عائلاتهم ومع عائلات كل ضحايا جرائم الإرهاب في العالم.
هذا الحدث المأساوي كان انطلاقة لحرب دولية ضد الإرهاب ما لبثت أن تفرّعت وتوزعت وضاعت أهدافها وأشعلت النيران في العديد من الدول خصوصاً في الشرق الأوسط حيث طالت شظاياها كل بلدان؛ منها من وصلته النيران مباشرة ومنها من حمل عبء النتائج. وقد أفرزت وغذّت أبشع أنواع الإرهاب، هدفه القضاء على الإنسان والحضارة والثقافة، فمارس أكثر الجرائم وحشية على شعوب منطقتنا؛ لم يوفّر مدنياً، طفلاً كان أو امرأة أو عجوزاً، ولم يوفّر مِعلماً، أثرياً كان أو ثقافياً أو دينياً. ثم تمدّد نشاطه ليضرب في القارات الخمس بأفظع الأساليب وأكثرها دموية، وينقض بإجرامه كل الأعراف والمواثيق والقوانين الدولية ولا أحد يعرف أين ستصل حدوده ومتى أو كيف سوف ينتهي.
مع بدء الأحداث في سوريا اضطرب الوضع في لبنان وبدا واضحاً أنه من عداد الدول العربية التي كان مقرراً لها أن تقع في براثن الإرهاب، ولكنه استطاع أن يتجنب السقوط والانفجار من خلال حفاظه على وحدته الوطنية رغم كل الانقسام السياسي الحاد الذي كان قائماً. فلم يتخط أحد الخط الأحمر المرسوم في وجدان كل مواطن، ما أمّن وحدة لبنان وحفظ أمنه، على الرغم من تسلل العناصر الإرهابية الى بعض مناطقه وبلداته وقراه وتشكيلهم مجموعات وخلايا مسلحة فيها. لكن لبنان تمكّن، وبجميع قواه، من القضاء عليها تدريجياً. ومؤخراً قام جيشنا بالمعركة النهائية على حدودنا مع سوريا وحقق انتصاراً كبيراً على التنظيمات الارهابية من "داعش" و"النصرة" ومتفرعاتها وأنهى وجودها العسكري في لبنان.
إن الأعباء التي يتحمّلها لبنان جراء الحرب الدائرة في سوريا تفوق بكثير قدرته على التحمل، لكن الشعب اللبناني أثبت أنه شعب إنساني ومسؤول؛ استقبل النازحين في بيوته ومدارسه ومستشفياته، وسمح لهم بمشاركته لقمة العيش وسوق العمل على مدى السنوات الأخيرة الماضية ما ضاعف نسبة البطالة فيه. وأشير هنا الى أن أكثر من نصف مدارسنا الرسمية تعمل بدوامين، قبل الظهر وبعده لنتمكن من استيعاب الأطفال السوريين.
سيادة الرئيس،
إن لبنان بلد صغير المساحة كثيف السكان محدود الموارد، اقتصاده تأثر بأزمات عدة أولها الأزمة الاقتصادية العالمية، ثم حروب المنطقة التي طوقته ومنعته من التحرك باتجاه الشرق والدول العربية التي تشكّل له المدّ الحيوي، ثم جاءت موجات النزوح واللجوء التي أضافت اليه ما نسبته 50% من سكانه، ما يعني أنه مقابل كل لبنانيين صار هناك نازح أو لاجئ، وارتفعت الكثافة السكانية في الكيلومتر المربع الواحد الى 600 بعد أن كانت 400، وكل هذا الاكتظاظ الشديد هو على مساحة 10452 كيلومتراً مربعاً، ما زاد من صعوبات أوضاعنا الاقتصادية، وزاد أيضاً نسبة الجريمة بمختلف أنواعها. والأخطر أن المجموعات الارهابية قد اتخذت من بعض تجمّعات النازحين مخابئ لها محوّلة إياها بيئة حاضنة، وكانت تخرج منها لتقوم بتفجيراتها حاصدة أرواح الأبرياء.
من هنا، فإن الحاجة قد أصبحت ملحّة لتنظيم عودة النازحين الى وطنهم بعد أن استقرّ الوضع في معظم أماكن سكنهم الأولى. هناك من يقول بعودة طوعية لهم ونحن نقول بالعودة الآمنة ونميّز بين الاثنين، واجتماعات مجموعة الدول الداعمة لسورياISSG قد أكدت على ذلك؛ فالعودة تكون طوعية أو آمنة وفقاً لسبب النزوح؛ فإذا كان اللجوء إفرادياً ولسبب سياسي يهدّد أمن الفرد وسلامته تكون العودة طوعية، أي أنها تُمنح للّاجئ السياسي ويترك له تقدير توقيتها، وهذا النوع من اللجوء يقترن بقبول الدولة المضيفة. أما اللجوء الجماعي بشكله الحالي الى لبنان، فهو قد حصل لسبب أمني أو اقتصادي، وهرباً من أخطار الحرب، ولذلك نسميه نزوحاً وليس لجوءاً، وهو لم يقترن بقبول الدولة ولم يكن إفرادياً، إنما على شكل اجتياح سكاني.
أما الادّعاء أنهم لن يكونوا آمنين إذا عادوا الى بلادهم فهذه حجة غير مقبولة؛ فمن ناحية، هناك حوالي 85% من الأراضي السورية قد أصبحت في عهدة الدولة ، ومن ناحية ثانية، إذا كانت الدولة السورية تقوم بمصالحات مع المجموعات المسلحة التي تقاتلها وتترك للمقاتلين حرية الخيار بين أن يبقوا في قراهم أو أن يرحلوا الى مناطق أخرى، فكيف بها مع نازحين هربوا من الحرب؟ وما حصل بعد الأحداث الأخيرة في لبنان يؤكد هذا الكلام.
وفي السياق نفسه، يعيش النازحون في البؤس وفي بيئة صحية غير سليمة بالرغم من كل تقديمات المؤسسات الدولية واللبنانية، ويؤلمنا ان نكون عاجزين عن تحسين أوضاعهم بسبب كثافة أعدادهم وبسبب إمكاناتنا المحدودة. ولا شك أنه من الأفضل لهم أن تقوم الأمم المتحدة بمساعدتهم على العودة الى وطنهم بدلاً من مساعدتهم على البقاء في مخيمات لا يتوفّر فيها الحد الأدنى من مقومات الحياة الكريمة.
بالإضافة الى النزوح السوري، يتحمّل لبنان أعباء لجوء 500 ألف فلسطيني، هُجّروا من أرضهم منذ 69 عاماً، ينتظرون عودتهم الى فلسطين، ومؤسسة الأونروا على طريق الانهيار المالي، ولا نرى في الأفق أي جهود جدية من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن لتنفيذ مشروع الدولتين، بل على العكس فإن المجتمع الدولي بجميع مؤسساته يعجز عن جعل إسرائيل تتوقف عن إقامة مستوطنات جديدة. ولا يزال العنف مستمراً لأنه لا يمكن إخضاع شعب سلبت هويته وأرضه.
لطالما كانت مقاربة إسرائيل للحل تقوم دائماً على القوة العسكرية وانتهاك الحقوق، ولبنان خير شاهد على ذلك، فهي تخرق السيادة اللبنانية والقرار 1701 بشكل دائم، وخلال الأيام الماضية قصفت طائراتها الأراضي السورية انطلاقاً من الأجواء اللبنانية، ثم قامت بغارة وهمية على علو منخفض خارقة جدار الصوت فوق صيدا وتسببت بأضرار مادية، أضف الى ذلك زرعها من حين لآخر أجهزة تجسس في الأراضي اللبنانية. وهذه الانتهاكات ليست بجديدة، فهذا ما دأبت عليه إسرائيل منذ سبعة عقود حتى يومنا هذا، وهي تسجل ما لا يقل عن مئة اختراق بري وبحري وجوي للسيادة اللبنانية كل شهر. ولبنان يتقدّم بالشكاوى الى مجلس الأمن، من دون أن يتمكن هذا الأخير من ردعها.
حضرة الرئيس،
هذه العقود السبعة من الحروب الإسرائيلية أثبتت أن المدفع والدبابة والطائرة لا تأتي بالحلول ولا بالسلام، فلا سلام من دون عدالة، ولا عدالة إلا باحترام الحقوق. ولا شك أن جريمة طرد الفلسطينيين من أرضهم وتهجيرهم لا يمكن أن تصحح بجريمة أخرى ترتكب بحق اللبنانيين عبر فرض التوطين عليهم، كما بحق الفلسطينيين عبر إنكار حق العودة عليهم. وليس تعطيل دور مؤسسة الأونروا إلا خطوة على هذه الطريق تهدف الى نزع صفة اللاجئ تمهيداً للتوطين، وهو ما لن يسمح به لبنان، لا للاجئ أو لنازح، مهما كان الثمن، والقرار في هذا الشأن يعود لنا وليس لغيرنا.
لقد تركَت جميع هذه الحروب جراحاً ثخينة في المجتمعات وبين الأفراد، وقضت على الأفكار الاجتماعية الواعية، وخربت مبادئ التعايش والتضامن وروح التسامح وقبول الآخر بين الأفراد والمجموعات في العالم، وصارت منطقتنا أسيرة الفقر والحاجة وهي تتحول الى بؤرة لمزيد من التطرف وتتوالد فيها الأزمات وتتصاعد.
من هنا ضرورة أن يترافق أي حل مع إجراءات اقتصادية واجتماعية كفيلة بتحقيق النمو وتحسين الأوضاع الاجتماعية لشعوب المنطقة بما يؤمّن لهم الحياة الكريمة والمستقرة. لهذا أدعو الى التفكير جدياً في مشروع إقامة سوق اقتصادية مشرقية مشتركة لضمان لقمة العيش في ظل الحرية.
إن لبنان الذي يشكّل عالماً مُصغّراً بحد ذاته، سواء بتنوّع شعبِه وثقافتِه، أو بحضارتِه التي هي عصارة حضارات متراكمة منذ العصورِ القديمة، من الآرامية، لغة السيد المسيح، وصولاً الى العربية لغة الرسول مروراً بالفينيقية والرومانية واليونانية واللاتينية والفارسية ووادي النيل... أضف الى ذلك أن الشعب اللبناني يجمع المسلمين بكل مذاهبهم والمسيحيين أيضاً بكل مذاهبهم، وعرف الحرب وتداعياتها والسلام وإيجابياته، وبهذه التجارب في العيش المشترك وشمولية الثقافة يستطيع لبنان أن يكون واحةً يمكن للعالم أن يلتقي فيها ويتحاور.
حضرة الرئيس،
الحضور الكريم
بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى أنشئت عصبة الأمم، وهدفها الحفاظ على السلام العالمي، ولكنها فشلت، واندلعت الحرب الثانية خلال أقل من ثلاثة عقود، وبعد أن توقفت أنشئت منظمة الأمم المتحدة وكان أول أهدافها حل النزاعات سلمياً بين الدول ومنع الحروب المستقبلية، فهل تمكنت من تحقيق هذا الهدف؟؟ الإجابة ليست صعبة، والعالم المتفجر حولنا خير جواب. إن الحرب الثالثة اتخذت شكلاً جديداً، فلم تعد حرباً بين الأمم إنما حروباً داخلية مدمّرة، وكثيرة هي الدول التي تفجّرت من الداخل لأسباب دينية أو إتنية، وبسبب التطرف ورفض حق الآخر بالوجود.
أما اللجوء الى تقسيم الدول طائفياً أو إتنياً فقطعاً ليس هو الحل، ولن يحول دون اندلاع الحروب. بل على العكس، فمن شأن هذه المقاربة أن تزيد العصبيات والتطرف والصراعات.
إن الحل لن يكون إلا بتغيير فكري وثقافي. من هنا تبرز الحاجة ملحّةً الى مؤسسة تعنى بتربية السلام؛ إذ وحدها ثقافة سلام وسماح جديدة تعلّم مبادئ العيش معاً أو ما يسمّيه البعض "العيش المشترك" يحترم فيه الإنسان حرّية المعتقَد والرأي وحق الإختلاف، يمكنها أن تواجه الإرهاب وأن تؤسس لمجتمعات قادرة على إرساء السلام بين الشعوب والأمم. ثقافة تُقرّب الإنسان من الإنسان وتساهم في تمتين العلاقات بين المجتمعات المختلفة وتساعد على اعتماد لغة الحوار وسيلة لحلّ النزاعات.
ودور لبنان، لا بل رسالته، هو في الحرب على أيديولوجية الإرهاب، لأن لبنان الذي يتميّز بمجتمعه التعددي هو نقيض الأحادية التي تمثلها داعش ومثيلاتها. والجهد الأساس الذي يجب أن تقوم به الأمم المتحدة هو محاربة الإرهاب فكرياً إذ لا احتواء له ولا حدود ولا جغرافيا لأنه عدوى فكرية متنقلة الكترونياً في العالم. لكل هذه الأسباب أطرحُ ترشيح لبنان ليكونَ مركزاً دائماً للحوار بين مختلفِ الحضارات والديانات والأعراق، مؤسسةً تابعة للأمم المتحدة، آملين من الدول الاعضاء ان يدعموا لبنان في سعيه لتحقيق هذا الطلب عندما يُعرض لنعمل معاً على تأمين ما تطمح إليه الأمم المتحدة، مؤسسةً وأمماً، من سعي الى السلام وحياة كريمة لجميع الشعوب، في عالم ينعم بالأمن والاستقرار."
وبعد انتهائه من القاء الكلمة، تلقى الرئيس عون تهنئة رئيس الجلسة الذي نزل من مكانه لمصافحة رئيس الجمهورية، كما بادر عدد من رؤساء الوفود الى تهنئته على مضمون الكلمة التي القاها باسم لبنان وابدوا ترحيبهم لما ورد فيها.