عام >عام
سيدات الأفران أمهات براحة العطاء
سيدات الأفران أمهات براحة العطاء ‎الاثنين 21 03 2016 12:09
سيدات الأفران أمهات براحة العطاء


رنا جوني, البلد
سيدات الافران امهات مناضلات، في يومياتهن تتجسد صورة التحدي، في عملهن تتعرف على امرأة حديدية، تواجه الحياة بابتسامة وصبر، حين ترق العجين وتدوره، تبدو كمن تدور زوايا مشاكلها التي تخرق جدار حياتها، لا تأبه بصعوبة عملها طالما تقدم نموذجا حيا عن الاصرار على فتح نافذة امل في جدار الوطن، لم تتخل عن امومتها، او تقصر في عطائها لعائلتها بل كانت مثالا لهم "ليكونوا فاعلين داخل مجتمع موبوء بالآفات والامراض بكافة انواعها".

لم يكن سهلا على ام سهيل ان تقف في الفرن ساعات وهي التي بلغت سن التقاعد، لم يخطر في بالها للحظة ان تتقاعس عن عمل وجدت فيه بعضا من اسرار حياة ملغمة بالقنابل الاقتصادية، "حرصي على اولادي دفعني لاعمل واتشارك معهم الفرن واقودهم في رحلة البحث عن حياة كريمة" كلماتها الرصينة تنم عن حذاقة امرأة همها صناعة عائلة متماسكة بعد فقدان زوجها مثلها مثل اي أُم تقف في موقف مشابه تضطر لتخرج الى سوق العمل كي لاتشحذ لقمة العيش. في بلد لا يقدر عطاءاتها الا في يوم واحد، يكرسه لها عيدا وحسب ام سهيل " الام لا تحتاج الى عيد بقدر حاجتها الى ان يكون ابناؤها قدوة".

"نسيت حياتي بالفرن"
يثلج قلب ام سهيل حين تجد نفسها "في قلب الحدث"، ليس لانها "فرّانة" فحسب بل لانها "أم، عرفت كيف تضحي لاجل ابنائها، تعلمت كيف اقفز على المشاكل لاننا في بلد سرقتنا المشاكل من حياتنا وامومتنا وضحكتنا، حتى الطحين بات مغشوشا ولكننا بطيبة حياتنا نحول آلامنا الى قوة".
بعناد المرأة الجنوبية تتحدث، وبكفاح الام تخبر كيف تغلبت على همومها في الفرن، واعادت لحمة العائلة، "توفي ابني في حادث سير، كان يساعدني في الفرن، نسيت انني امه كنا رفيقين، احيانا تقسو علينا ظروفنا، وحده العمل ينسينا همنا. وانا عبر الفرن نسيت الكثير من حياتي وفكرت فقط بعائلتي"، معاناتها طيلة الحياة اعطتها ميثاق قوة" المزارعة والفرانة والام هي هويتي هي صنعت عائلتي، مشقة الحياة تدربك كيف تواجه بصلابة، دون انكسار وهذا غالبا ما تجبرنا الظروف على الانطواء، وجدت في الفرن حياتي الجديدة، بات اولادي اكثر قربا" .

القائد
استطاعت نسج علاقات اجتماعية راقية داخل فرنها، ان تبث ثقافة الحوار الذي يحتاج اليه مجتمعنا، ضحكتها التي لا تفارقها تعطيها صبغة محبة من كل الناس، "الحياة تعلمك كيف تنشئ لغة حوار، لغة تواصل حية متينة بين الناس، وهذه اللغة اجهد ان ابثها في حياة اولادي لان بناء مجتمع متين يبدأ من العائلة"، منذ سنوات وام سهيل تعمل داخل فرنها، تتساعد مع عائلتها، تبدو "القائد" الذي يبرم الاتفاقيات الاقتصادية.

خسرت ام سهيل احد ابنائها في حادث سير قبل عدة سنوات ومنذ ذلك الوقت تعمل في الفرن تتحمل "لهيبه" وقساوته وتقابله بابتسامة تخفي خلفها حزنا كبيرا تتجاهل الحديث فيه"حياة الفرن علّمتني أن اواجه كل التحديات بحكمة، اي مشكلة افكر فيها وانا ارق المنقوشة، لانك في تلك اللحظة تفكر صحيحا، بعيدا عن التعصيب الذي يقتل حياتنا، دربت اولادي كيف يتحدون الصعوبات، اعطيتهم نصيحة اذا بدك تفكر بحكمة احمل رغيف الخبز بتمعن".
تحديات جمة تواجه سيدات الافران، سيدات بات اسمهن في كل مكان، يتميز انتاجهن بـ"الممتاز"، يعرفن جيدا كيف يصنعن طعم الفرح من خلف تعب النهار الطويل، سرقن الانظار اليهن بتضحياتهن ولو على "حساب صحتهن" تعاني فاطمة من "الديسك" ومع ذلك تعمل في الفرن، تجلس ساعات ترق وتدور العجين كما لو كانت تدور حياة عائلتها، دفعتها الظروف الاقتصادية لتفتح عملها، لتكون سندا لزوجها وتقدم لاولادها نموذجا عن "الكفاح في الحياة، دور الام لا يقف عند التوجيه البسيط، بل كيف نربي اولادنا على المثابرة في العطاء، على تكسير الحواجز التي تواجههم بصلابة بالبحث دوما عن نافذة للرقي، عملي لم يبعدني عن اولادي بل قرّبني منهم اكثر، باتوا يشعرون كم اتعب لاجلهم فيكافئونني بنتائج مميزة في المدرسة، وهذا يمدني بالقوة".
لم تخل حياة فاطمة العملية من مشاكل، الام لثلاثة اولاد، تقسم وقتها بين عملها في المخبز وبيتها، لا تتأخر لحظة عن تخصيص وقت لتعليم ابنتها الصغرى، في الفرن تُجلسها بقربها وتعلمها، وترشد ابنها الاكبر كي لا يقع فريسة الآفات المنتشرة، ساعات طويلة تمضيها في عملها لتساعد في تسهيل حاجات عائلتها، وفق فاطمة "الام مدرسة وعمل الام مدرسة مضاعفة"، برأيها "اشراك الاولاد في التربية جزء من عمل الام، اعزز ثقة ابنائي بذاتهم، ادربهم ان الحياة صعبة وتحدياتها اكبر، وانا اعمل لاجلكم انتم كيف ارفع رأسي بكم، ارددها باستمرار لانني اخشى ان ينجروا الى مسليات العصر الخطيرة".

أحلام مسروقة
بين العجين تمضي ام علي يومها تتلقى الطلبيات بابتسامة تعامل المنقوشة بحنو تعطي الزبون كل حقه وماذا عن حقها؟ سؤال تقابله بضحكة حزينة "مين بفكر بحقوقنا؟، يمكن ما النا حقوق عند حدا"، لم تحظ ام علي يوما بحقها في وطنها مثلها مثل اي امرأة عاملة في الزراعة والدكان وغيرهما، فهذه المهن برأيها "هامشية لا احد يعترف بها"، انتقادات لاذعة تلقتها في عملها "شو بدك بالشغل وفرّانة كمان ما في ابنك" الا انها لم تبال بها "اعمل لاجلي وعائلتي، لكي نوفر حياة كريمة لا نحتاج فيها لا لزعيم ولا لسياسي" غالبا ما تقف امام الفرن، تدور العجين وتقطعه كما لو كانت تقطع احلاما مسروقة خلف قضبان الفساد، ترق العجينة وتشرحها وكأنها تفتح افقا جديدا لابنائها ليتعلموا كيف ينظمون حياتهم، يقفزون خلف القفاعات "الفرن بيعلمك كيف تكون انسانا مضحيا، العمل مش عيب، اساعد ابني ونتعاون معا، نخبز، نرق، نعمل الكعك، نتبادل اطراف الحديث ننظر للحياة من منظور عجين ونار".
يغلب التعب جسدها، وجهها يخبر قصة معاناتها فلا ضمان، لا راحة، لا شيء ومع ذلك تردد على الدوام "العمل قوة، حقنا الله يباخذو، رح يتغير الزمن، ولربما اتى يوم اعطي كل عامل حقه في بلد الحقوق فيه مهدورة لصالح مؤسسات لا تخدم الا ابناء الزعماء والفقراء يغنون على ليل الظلم" ومع ذلك تكابر "لاجل ابنائي يجب ان اكون قوية، لاكون لهم سنداً فولاذيا".

لم تحظ ام علي بلحظة فرح، فالظروف تنغص حياتها، قبل سنتين ونصف سنة توفي زوجها ابن الـ57 ربيعا وجدت نفسها في الفرن تعمل مع ابنها يتقاسمان الحياة بحلوها ومرها، تقدم مثالا كيف تدور احزانها ، فالانسان يجب ان يشتغل اي شيء فالوظيفة قد لا تدوم، الفرن انا مديرته اصنع سياسته بما تناسب مصالح عملي وزبائني وليس العكس. كل عمل تربية، انا في الفرن ام لكل زبون، استمع لهمومهم واسدي لهم النصائح، الامومة وطن والوطن بلا ام لا قيمة له، لكن من يحكمنا لا يعرف قيمة العمل والامومة، رغم اميتها الا انها مثقفة، تخرجت من مدرسة الحياة، ربّت ابناءها على قوانين الطيبة والانسانية وليست قوانين الواتسآب والسلفي، بتنا نحتاج الى اعادة تربية لاجيالنا، لاننا نخسر قيمنا يوما بعد آخر".
خبرت سيدات الافران الحياة عن كثب، تعرفن على طبقات المجتمع، سمعن مشاكل الناس وهواجسهم المخفية، حين تعجن ام علي وام سهيل تدركان انهما تعيدان صناعة وطن لعائلتيهما، لابنائهن، تعيشان حلم الحياة باعادة خبز المجتمع من جديد لخلق توازنه القوي بدءا من الام حتى الزعيم.
في عيدهن الف تحية لصناع القرار في وطن موسوم بشعار حسب ام سهيل "ارموا شعبي جانبا وأعطوني كرسيا والأموال فأين تقف امومتي وحقي؟".

 

المصدر : رنا جوني, البلد