لم يكن المشهد عادياً على الاطلاق، كان سوريالياً بكل تفاصيله، وحقيقة راسخة بأن من يشعر بالالم يكون قادراً ان يدرك معنى الالم في اجساد الاخرين، وان من يحتاج إلى رغيف الخبز يسدّ به جوعه ويُسكت به صراخ اطفاله، يخبر عن قرب حاجة الاخرين له، ولانه يعيش التجربة تراه يسارع الى ممارسة فعل العطاء ولو بالقليل لانه بالامس القريب او في اللحظة عينها يعيش هو الاخر عذاب "القلة" هذا.
على بسطته البسيطة يضع ابو العبد الكعك الطرابلسي لبيعه في شارع عزمي وهو الشارع الذي يعج بالحداثة الظاهرية ويحافظ على اصالة وقيم تجاره وساكنيه ورواده، منذ خمسة وعشرين عاما وابو العبد يلتزم زاويته يحضر الكعك على الفحم ويمنح الشاري لذةً ما بعدها لذة.
توقفت عنده ليجهز لي كعكعة للسحور فأتاه عامل التنظيفات في شركة "لافاحيت" وطلب منه كعكتين له ولرفيق معه يتعاونان على إزالة النفايات من الشارع. جهز الكعك لهما ونده له، وأنا أراقب المشهد:
أخرج عامل التنظيفات من جيبه الأيمن الفي ليرة لبنانية وهمَّ باعطائها لأبو العبد كثمن للكعكتين، فما كان من أبو العبد إلا أن صرخ في وجهه قائلاً: "عيب عليك ضبون بجيبتك لولاكون طمرتنا الزبالة. الله يعطيكون العافية عم تتعبو".
فقير يطعم فقيراً ما اجملك يا مدينة البساطة والمحبة يا #طرابلس.
ابو العبد في موقفه هذا اكد ثابتتين:
الاولى مفادها ان طرابلس مهما تمدنت شوارعها وصارت اكثر حداثة وتطورا وفخفخة، فإنها محافظة على أصالتها وطيبة اهلها وكرمهم، وانها مدينة البساطة وام الفقير.
اما الثانية فتتمثل بكون الفقير الطرابلسي يلاقي زميله في الفقر في منتصف الطريق ويمد له يد العون، وهذه فلسفة حياة لم تعد موجودة في كثير من مجتمعاتنا العربية، على عكس كثر من اصحاب الملايين الذين يهربون من شوارع مدينتهم اذا كان فيها بائع متجول، ويقصدون بيروت وجبيل وغيرهما للتبضع والسهر، ربما لاعتقادهم ان طرابلس لا تليق بهم، وهي بكل تأكيد تليق بأهلها وفقرائها وميسوريها، ومن يظن ان مكانته اكبر من مكانة الفيحاء فهو الابن الضال الذي وجب ان ندعو له بالهداية والعودة الى جادة الصواب...الى طرابلس.
لبنانيات >أخبار لبنانية
في طرابلس: فقير يطعم فقيراً
الثلاثاء 5 07 2016 13:04مصطفى العويك