بأقلامهم >بأقلامهم
رفيق الحريري... عديد الأقدار التي أدركها وارتضاها
المحامي حسن شمس الدين
يوم قرر رفيق الحريري بهاجسه اللبناني اقتحام المشهد السياسي والتصدي لمهام حراسة الطائف والخوض في تحديات تحصين السلم الأهلي والوحدة الوطنية،، وضخ الحياة في ورشة بناء الدولة واعمار البلاد، واستنهاض طاقات اللبنانيين وقدراتهم واستعادة الكفاءات بغية استبدال الاحباط بالعزيمة والأمل، وليظلل لبنان بأوسع شبكة أمان وتواصل وانفتاح، ايذاناً بطي صفحة الحرب وضياع الدولة باستعادة الحضور، سداً بوجه محاولات الابتلاع وسبيلاً للفوز بالسيادة، كان التقاطع العربي والدولي مع سوريا في أعلى منسوبه ودرجاته، ويوم كانت سوريا (حافظ الأسد) قد تمكنت ولأسباب عديدة والتقاء جملة من الأحداث والتطورات من انتزاع التفويض اللازم والكافي لوصايتها على لبنان والاطمئنان لقدرتها على فرض ايقاعها الخاص لتطبيق ما تراه ملائماً من اتفاق الطائف وفقاً لما لديها ولما تضمره من رؤية وأولويات وحسابات، ولمعرفتها بأن الجميع قد سلم برجحان موازينها وقدراتها في ادارة الأمور والتحكم بمجرياتها.
وهو لم يكن بعيداً عن واقع الحال ولا بعيداً عن الكامن في البواطن والأعماق يوم خبر سعيها الدؤوب لمتابعة كل تفاصيل ولادة الطائف، ولتحوِّل "الرعاية" الى وصاية ولتحتفظ بلبنان في جيب نفوذها ومرتكزاً لتنمّي وتمتلك أفعل وأوسع دور وتأثير وبما يتجاوز أكثر التنبؤات والقراءات قلقاً وتشاؤماً.
كان لديه ما يكفي من الثقافة السياسية والتاريخية و قدرة الاستشعار والتنبه وما يكفي من الحس العملي، ليدرك ما تنشده القيادة السورية من دور وتأثير ولتكون في موقع اللاعب الأساسي في المنطقة ورقماً متقدماً في ساحات الصراع وفي حسابات الاحتدام والمهادنة، كما والمحافظة على ان تبقى ضمن تصنيفات "اللاعبين" بعيداً عن منزلقات التبعية والالتحاق، وليدرك أيضاً حجم الحساسية المتوارثة والملازمة لكل من حكم سوريا، ثابتة التشكيك العميق بمبرر وجود لبنان الكيان والدولة والتوجس من غاياته، ومعها وبالتوازي مع كل ذلك، ثابتة درجت عليها حقبة الأسد (الأب) بالإبقاء وفي كل الظروف على مستوى معين من الرابط والعلاقة مع العرب (يكبر ويصغر وفقاً للظروف) ولتبقي وفي مطلق الأحوال "حبل السرة" مع البعد العربي أقله في ركيزتيه المصرية والسعودية بما يحصن مشروعيتها ويوسع هوامش المناورة لديها .
رجل مسكون بعَقلين!
اجتهد رفيق الحريري برأيه واختار توقيته ودخل المعترك مسكوناً بعقلين: سياسي واقتصادي تنموي، وهو ما جعله الشخصية المحورية في مرحلة ما بعد الطائف الى لحظة اغتياله وليواجه وطوال سنوات الحضور علامات حاسمة في سجل تحدياته الحافل وعديد الأقدار التي أدركها كلها وارتضاها.. بدءاً من قدره في تبوء صدارة المشهد والمسؤولية في الزمن الذي كانت الوصاية السورية ونظامها الأمني قد تحكمت وتمكنت من الامساك بمعظم مفاصل السلطة في لبنان مباشرة وبالواسطة وأتمت مهامها في رسم الأحجام والأدوار.
ولم تكن تلك الوصاية لتتحكم وتتمكن لولا ما استندت اليه وضمنته من غطاء دولي بشكل عام وأميركي بشكل خاص، الأمر الذي كان له سياقه ومؤشراته ووقائعه ولم يسجل في خانة المجهول، بل كان بطبيعته أقرب الى المعلن أقله لدى كل من اهتم وواكب تطورات تلك المرحلة.
"... لأن الطائف صنع نصفه في دمشق، سعود الفيصل يمضي وقته متنقلاً بين دمشق والطائف، وكل فقرة من الاتفاق كانت تناقش مع حافظ الأسد وتؤخذ موافقته عليها. كان حافظ الأسد يريد اتفاق الطائف، بسببه بقي في لبنان مدة طويلة، قرابة 15 سنة، وقد حصلت أمور عززت الوجود السوري في لبنان مثل احتلال الكويت ودخول القوات السورية تحت قيادة القوات الأميركية ومشاركتهم في الحرب حتى لو كانت مشاركة رمزية، يكفي أنه تحرك فوج أو لواء أو كتيبة الى الكويت ولم يكن العدد مهماً، المهم أن القوات السورية كانت تحت إمرة الأميركيين الى حين انعقاد اتفاق الطائف ما لم يستطع الأسد أخذه بالمفاوضات أخذه لاحقاً بالغطاء الذي أعطاه الأميركيون في حرب تحرير الكويت" ص. 306 – مذكرات جورج البطل -2019 .
ولولا تطوع داخل لبناني ما متعدد المشارب والعقول بسلوكيات وحسابات السلطات المتنافسة والحروب العبثية اشباعاً لشهوات السلطة وأهوائها والمصحوبة بكل ما أُنزل من أهواء وأمراض وعقد وتهورات، وكم كان هذا " الداخل " سخياً بجموح أفكاره ورعونة سلوكياته وأولوياته كما بغزارة رهاناته ومطالعاته، متطوعاً على الدوام لمجاراة المطلوب من المسوغات والتفسيرات غب الطلب بما يهيئ المسارب لأقصى التوغلات والغايات وبما يساعد " الوصاية " على الاخلال والتلاعب بتلك التوازنات التي أكدها الطائف ونشدها وأوجد لها ومنحها (اي الوصاية) حجماً لم تكن لتحلم به، فتستبدل مراحله الزمنية المحددة بمراحلها المديدة والفائضة، وتنتقي من العناوين والمندرجات والبنود ما يلائم مصالحها، توطيداً لما ضمرته وحددته من ايقاع وبما يساعد على تعميم سطوتها باعتبارها قد أضحت وتهيأت لتكون المصدر الأوحد لكل الشرعيات ولكل المشروعيات، ولتتفرغ وبهناءة المسيطر لترعى وبالتدرج المريح تنمية "مناعتها القوية" التي اوجدتها .
الجسم الموازي والاحتياطي ذاته الذي تحول بعد العام 2000 من كونه الشريك العسكري ليصبح شريكاً سياسياً ولتسود به ومعه تلك القبضة الأمنية بقدها وقديدها، وليتصاعد منسوبها تحكماً وليسودا حكماً مطلقاً في كل صغيرة وكبيرة ..
مروراً بقدره بالانفراد والتميز بأن يصنف لدى الوصاية ووفقاً لوقائع كثيرة همساً ومجاهرة في موقع الملتبس سياسياً بخلاف الآخرين، كل الآخرين وصولاً لمن انتدبتهم لرئاسة الجمهورية..
ولا غرابة وهو الذي كان يكثر من التذكير والتكرار عن الطبيعة المؤقتة للوجود السوري في لبنان وكانت مفردة المؤقت تضاف لديه مع كل لفظة او ذكر " للوجود السوري " ولأن الوصاية كانت تتعبأ نحوه استفزازا وحنقاً لما تقرأه وتراه وتعتبره في معزوفته هذه بعداً سياديا صافيا، يتلمس لحظته ويلاقي ما يتناقض مع وجودها ومبرراتها، وبخاصة في المرحلة التي تلت الانسحاب الاسرائيلي عام 2000، ولتعيد النظر في درجة تصنيفه وبما يتجاوز "الملتبس سياسياً " بأشواط، وليستمر هو في ابراز بعده السيادي الذي لم يستكمل وينجز الا في لحظته الدموية، ولو ان البعض استمر معاندًا في قراءته الخاصة لتلك المعزوفة والاصرار على حصرها بحدود اعتبارها نوعا من التواطؤ مع سلطة الوصاية وباعتبار ما اتكأ عليه من علاقات دولية قد شكلت استثمارا ناجحا لتلك الوصاية في المحافل العربية والدولية، واعتبروه استثمارا لم يكن ليقدر عليه الا رفيق الحريري، اطالت في عمر الوصاية وإن لم ينه مفاعيلها الا جسده.
وصولاً ايضا لقدره بأن يكون "هو" قدر اللبنانيين في محو ذاكرة الحرب التي كانت صورتها لا تزال جاثمة فوق بيروت وهو المكان الأكثر التصاقاً بذاكرتهم عن الحرب.
وحده رفيق الحريري كان متمكناً وقادراً على ادارة لعبته الخاصة في التعامل مع سلطة الوصاية ومن الابقاء على هامشه مستفيداً من خصائصه وفائض واقعيته، هالة من الحضور الجاذب والمتقدم على اقرانه بأشواط لما لديه من امتياز في رؤية المشهد بابعاده الكاملة، ولم ينقصه السبيل يوماً للمعلومة، وكان دائم المواظبة والقدرة على الاحاطة بكل أجزاء الصورة، مصدر المعلومة، علاقات وصداقات عربية ودولية فريدة من نوعها لجهة الاتساع والرسوخ دون أن تفوتنا تلك القدرات لتوليد القناعات بالحاجة اليه ..
ليعود ويتحصن بهذه الحاجة ليحمي بها ما يتطلع اليه من هامش واستقلالية، ولتبقى قصته مع البعد السيادي ذلك الكامن الأكبر في كل مساراته ومحطاته والتي يصعب بشأنها الاختصار طالما أنه بيت القصيد في لبّ عقله وبه يتمحور المعنى الأساس لزبدة قناعاته ولبنانية هواجسه (ومحوره) ومحركه في الخوض بتحديات حراسة الطائف وفقاً لحقيقة وظيفته ووضوح معادلاته وابعاده.
وعلى قاعدة أن كل بلد عربي يمكن اعتباره نموذجاً لتعقيدات الواقع الجغرافي العربي سياسياً واجتماعياً وتاريخياً وحاضراً ومستقبلاً، جل ما في الأمر أن لبنان يتقدم اقرانه بكون تعقيداته واضحة للعيان وسهلة الاستغلال عربياً ودولياً. وباعتبار ذلك هو نقطة ضعف الأساسية ولعلها في الوقت ذاته مصدر قوته !.
وهي تحديداً النقطة ذاتها التي دفعت بالصحافي الكبير ميشال أبو جودة ليقول بين المزح والجد "لبنان مشرشح لكنه في الوقت ذاته قادر على "شرشحة" كل من يحاول النيل منه.
وهي اياها ما دفعت بالمتفلسفين للقول، بالمعنى ذاته، قوة لبنان في ضعفه.
ولم يكن رفيق الحريري بعيداً عن تلك القواعد والخصائص والصعوبات وبالنظر اليها وبطريقته العملية التي تفصح عن ذاتها، عمل بطول باع وبصبر "الحافر بالإبرة" على معادلة "تكبير اللقمة" ليصعب "الابتلاع".. ورهانه الأكبر كما قناعته الراسخة في كل ذلك بأن تطور ما قد استجد وتجسد واقعاً، وهو بأن لبنان قد خرج من الحرب بمفهوم للهوية اللبنانية أكثر صفاءً من اي وقت سابق. والذي هو وحده من بين الدول العربية يتميز بكونه لا يحدد ديناً للدولة.