بأقلامهم >بأقلامهم
رفيق الحريري.. احتلال العقول سبق احتلال القلوب بزمان (2)
* بقلم المحامي حسن شمس الدين
- ميزة الاقدام وفعالية الأدوات.
- بداية فكفكة لما اعتادوا ولما استكانوا!
- إشارات الحضور الأولى كانت تغييرية وثورية.
- احتاطوا من اقترابه من الخطوط الحمر.
***
قليلة هي النماذج التي يمكن رصد صور التشابه بينها وبين ظاهرة رفيق الحريري ان لجهة التنوع في المصادر وتقاطع الظروف والمصادفات والفرص أو لجهة امتلاك مؤهلات الحضور وقوة التأثير وميزة الاقدام وفعالية الأدوات والشجاعة في ضخ الموارد والتمكن من تطويعها بالتلازم مع لحظة التقاء الحاجة وشح البدائل وخواء المكان وكثرة الأسئلة وقلة الاجابات لحدود النضوب .
ظاهرة اكتسبت الفرادة منذ ما قبل البدايات، وعلى مدى سنوات السطوع، وقوة الجذب بتلك الاطلالة الوازنة والحاسمة، كما بديناميات التفاعل الشاخص والمتأهب دوماً والعصي على الاختزال والذي يصعب صده او تجاهله ..
قليلة هي النماذج القيادية المشابهة له والتي ترسخت حضوراً في الالتزام الصلب بالدستور نصًا وروحًا باعتباره صخرة المراجع و"الكتاب" وفقًا للمكرس في استعارات الرئيس الراحل فؤاد شهاب، وبالسهر على تحصين الوحدة الوطنية، كما الالتزام بخيار الدولة ولينعكس ذلك ويرسخ في السياسة وفي الدبلوماسية وفي الاقتصاد وفي كل قنوات دعم الناس وصمودهم ومنحهم الشعور بالأمان وتعميم ثقافة التعاضد الاجتماعي وفي التنمية الشاملة المتوازنة، كما في الوجدان وعلى مدى السنوات اللاحقة للرحيل ( الاغتيال) ولا يخطئ بعض من يحتكم الى أن الوقت قد استهلك ذلك (أي المنسوب الوجداني) باعتباره من صنائع الزمن في البشر وطبائعها وإن كنا ندعو هذا البعض للتمعن في حقيقة المعادلة اللافتة التي أصبغها "رفيق الحريري" على فضائه يوم تدرج ولمديد السنوات في احتلال العقول قبل أن يتجلى مشهد احتلال القلوب بزمان، واذا كانت تلك "الظاهرة" وابان حياة صانعها وعلى مدى سنواتها قد امتلكت القدرة على الاحاطة بالمكان المقرونة بقوة الانجاز وجرف العوائق وتعطيلها وتقزيم اسوار الصعاب وامتلاك موهبة اجتراح التسويات ومخارج الحلول وابراز الوقائع بحدود أحجامها ، فإن الفرادة الأكبر قد تجلت ورغم كل محاولات المحو وبرمجيات تعطيل الذاكرة وافراغها في تعاظم رقعة الاقناع والتأثير ، كما التمعن والتأمل طوال تلك السنوات التي تلت حدث الغياب في فداحة الفراغ عند كل استحقاق وكل تعثر وكل انحدار .
ظاهرة ليس من السهل الاحاطة بمروحة تشعباتها أو بتعدد عناوينها أو الجزم بحدود وظيفتها او بمقاصدها الكاملة .. ظاهرة بهذا القياس استدرجت كما يعرف الجميع كماً هائلاً من اجتهادات التعريف والوصف، وكماً من الارتدادات وردات الفعل ، والتي انقسمت بين من توافق معها ووجد بها جواباً يمكن الركون اليه خياراً وبين من أبدى حذره وتوجسه منها الى حدود الرفض والعداء باعتبارها مختلفة بمقارباتها ووسائلها وبعدها في كثير من الأحيان عن الدارج والمعتاد ، وربما استشعر بها هذا البعض بداية لفكفكة ما اعتادوا واستكانوا له من أنماط تأقلم مع تتالي المأزوميات ولتستقر الأمور بهم مصابين بأعلى درجات انبعاث التخوف ومما فاقم لديهم منسوب الشراسة ملازمتين ومقرونتين بغريزة الدفاع عن الوجود .
لسنا هنا بصدد سرد كل الأساسيات المكونة لتلك الظاهرة ، ولسنا ايضاً ممن يدعي القدرة على ذلك ، الأمر الذي بجديته هو اقرب الى الحاجة والضرورة ، الاستثنائيتين ، ولتبقى نلك المهمة بالغة الالحاح وتحتاج الى تضافر وتلاقي الكثير من الجهود ، خاصة وان الكثير مما عرف وقيل وكتب ونشر ، يمكن ان يشكل مرتكزاً ومساعداً لإتمام ذلك ، ولربما هناك من يرى ان الوقت لم يحن بعد ، الا ان هناك ايضاً من يجزم بدنو الوقت المثالي لذلك وبأن ستة عشر عاماً على الحدث " الجريمة " هو زمن أكثر من كاف عطفًا على ما حملته واثبتته تلك السنوات من خلاصات ومدلولات ، وبأن السياق التاريخي للواقع والأحداث سيكون حاسماً في انصاف قامة بمكانة رفيق الحريري ، أقله بالاستناد الى طرق الاستدلال العلمي بركنيه المعرفي والمقارن ، ولواقع ما آلت اليه ايامنا من تراجعات وانحدارات وتعاسة مع ما سبق ، وطالما ان الحقائق هي الفصل فإن الأحكام ستكون لصالح ظاهرته لا محالة خاصة لما تمتعت به من اتحاد وتناغم بين ضآلة المباح المعلن وغزارة الفعل والممارسة ، ومرشدهما عميق الالتزام الوطني باستقلال لبنان وسيادته وبعروبة صادقة وانسانية طبيعية نابعة من عاطفة ملؤها الانفتاح والحداثة وبما يتخطى تراكم الاخفاقات التي لطالما المح اليها المؤرخ الكبير كمال صليبي :
" القومية العربية أخفقت لأنها كانت في زمانها قومية منافقة ولأن عمقها العلماني كان مزيفاً. ولأن الأقليات في العالم العربي مثلها مثل الأكثريات، تبنت هذه القومية زيفاً وفي نيتها النفاق. الصادقون من الفريقين كانوا قلائل، لقد جعلنا منها سلعة رخيصة تشترى وتباع في البازارات الدولية ".
من امتلك الرغبة في الخوض في عناوين تلك الظاهرة ، كان عليه التهيؤ والاستعداد لسجاليتها واشكاليتها الملتصقتين بها كالقدر ، بحيث انه ولحظة الشروع في انتقاد اي من عناوينها يتقدم البعدان ، وتبرز القراءتان ويحضر التفسيران ويكونان في طبيعتهما اقرب الى التناقض ، ان لم نقل أنهما يمضيان وبمعظم الأحيان لحدود التناقض الكامل ، ولا غرابة في ذلك طالما ان محور البحث والتمحيص يدور حول شخصية ملأت الفضاء وشغلت الناس وأيقظت المتضررين وحاصرتهم بعجزهم وقصورهم كما بالاختناق بشعور المدان مما غيّر في الأحوال واستحال معها غض الطرف والتجاهل ، شخصية امتلكت حدي السياسة والاقناع وتمتعت بالجهوزية والاقدام لحدود الاقتحام والفوز بالتسوية والاتفاق .
شخصية ابدعت في انتقاء ادواتها واظهار حقائقها، وليبق لمن رغب في مواجهتها التهيوء لاستحالات الافلات من قساوة المنازلة والاستعانة بأقسى الوسائط واشرسها، وعصر المخيلة للاستعانة بكل الكوابيس المتناثرة واعتماد الأحابيل وتجنيد الأقلام وانعقاد الغرف السوداء واللعب على أوتار كل المرتعدين من تبدل السائد، الذين كانت قد اشتعلت لديهم اصلاً نار الغرائز وتطوعوا للإكثار من نصوص العداء والتشكيك دون ان تفوتهم لازمتا التخوين والشيطنة ..
الاشارات الأولى لحضور تلك الظاهرة ، كانت تغييرية بطبيعتها وثورية ، ومن خارج كل الأساليب والقواعد التي سبق ان اعتادتها وخبرتها الحياة السياسية في لبنان ، ومهدت لنموذجها في العمل السياسي وليسود العمل بديلاً عن كثرة الكلام والشعارات وليتولد الأمل لدى الناس وكذلك الثقة بالذات وبالقادم ، كما مهدت للتجديد في جوهر التطلعات وتسلسل الأهداف بعيداً عن كل الرتابات السابقة في ادارة الموارد وتحديد الأولويات وبما يختصر المسافات ويعزز وسائط التواصل مع الناس واختيار النص البسيط ووضوح المفردة ، ولتتنامى بالتالي القدرة لديها على الانتشار والجذب ، بما اسس لمناخات وانعطافات شاملة غير مسبوقة بدأت تنذر بتفكك الهيكل في لوائح التقليد وآليات تكون الزعامات والبيوتات التي ابتلت بما يهدد متانتها كما مناعاتها الآخذة بالترنح .
منذ البدايات استشعر هؤلاء بتراخي قبضتهم واهتزاز السائد لديهم (خطرُ ما يلوح في الأفق)، تيقنوا من جدية القادم واختلط عليهم التنبؤ بحجم التداعيات وفقاً لحدود آفاقهم وعمق قلقهم وليصطدموا بقدرة هذه " الظاهرة " على تجاوز محدودية قراءاتهم وبما احاط بها من مرونة واتساع في الرؤية كما بالحجم والقدرات والشحنات التغييرية ذات التوتر العالي، يوم لم تعد وخزات التوجس والقلق لديهم كافية وشافية فكان المضي والتبحر في مجاله الدفاعات وفي الداريات البدائية ملاذاً وحيداً للبقاء.
لنعود هنا مع المؤرخ كمال صليبي في قوله:
" لا أستبعد ان تتمكن الروح العشائرية المتأصلة فينا من التغلب على العولمة كتجربة انسانية، مهما كان لها من آليات اقتصادية الكترونية وغير الكترونية. لا نستهن بقوة دعوة الجاهلية وقدرتها – منفردة او بالتعاون مع القوى الكبرى التي تستفيد من وجودها – على معاندة الزمن، وتبقى العشائرية آخر الأمر ومهما كان الستار والقناع الذي تختبئ وراءه اساساً ضعيفاً لبناء مجتمع حديث قابل للديمومة “.
يتبع...