ثقافة وفن ومنوعات >ثقافة وفن ومنوعات
العروج نحو النصر - علي زعرور
الأحد 23 05 2021 10:37علي زعرور
في الجوار فرادة ونكهة من نوع آخر، لا يتذوقها إلا العارجون نحو صفاء النفس والعرفان المتأبط حقيقة الأخوة والصداقة.
في أحياء الجسد تتصادق كل الأعضاء وتنسج بينها مودة ورحمة لا مودة مزيفة لأمر واقعٍ مفروغ منه او مصلحة مستدامة لتأمين استمرارية الوجود، وحتى في الجوار يتناوش المتجاورون مناوشة الود للود لا اللد للّد، وتنطبع بينهم علامات القبول والرضى الضمني لا مؤشرات الفراق والخصومة لا بل اكثر العداوة البغيضة.
في أحياء القدس العتيقة بانت لآلىء" قدس"، هذا الشاب الذي قضى ريعان طفولته في أسرة تنزنز فيها الأصالة والقيم والمبادئ، وتجهد" أم قدس" هذه الأم الملتحفة بعباءة "الأرض لنا" وستعود حتما، إلى بثّ روح الإرادة والثبات والعزيمة والصمود، عبر تربية قد يراها البعض أنها ما زالت بدائية تقليدية لا تحاكي لغة التربية الحديثة الممزوجة بمهاترات الرقص والذهول في خانة الحياة اليومية، نعم تجهد إلى مخاطبة وليدها بعبارات تنحت على جدار ذاكرته استمرارية القضية، "يمّه يا قدس، يا ولدي الأرض عرض والعرض ما بيتفرط به"، وتستتبع "أوعى يا قدس يجي يوم وأشوفك متخاذل متل بنات الرذيلة، انا اموت بحسرتي إذا ما شفتك شهيد ولفيتك بأضلاعي لما ودّعك، سامع يا يمّه، لا تخذلني".
وكانت هذه العبارات ترمم ما دمّره المحتل عبر فرضه ثقافة التهويد وذوبان الهوية وضياعها، وكان أقصى هذا الفتى اليانع يجهز نفسه لمرحلة القطاف الذي يمتزج فيه النجيع مع الحديد والنار، لتكون الشهادة تحت أهازيج النصر.
في المجاورة الأخرى لا يخلو الأمر من قصّة متشابهة في كل موروثات القيم والأخلاق، "أقصى" فتى من الفتية الذين ذقّوا النخوة ذقّاً، تجرع من والدته" أم أقصى" أصالة التاريخ والقضية، نبت شعره وجلده وحواسه من فضائل رضاعة جلّ ما فيها أنها بعيدة عن السموم التي تأكل الجسد وتدفعه إلى التخلّي في لحظات تحتاج إلى حسمٍ كسيفٍ بارقٍ، أو وغى محترق لا يطأ أرضه إلا من كان محصّناً بزاد الألوهية وقداسة الجرأة.
شاءت الصدفة بعد أن كبرا وكبرت أحلامهما التي كانت ترفرف كطيارة من ورق ترميها أيادٍ حالمة لتجوب كل الأرض، على قاعدة، كل الأرض لا تجزئة ولا تخلٍ مهما تعاظمت المحن"أن يلتقيا في لحظة الحسم يوم هبت الأرض وانتفض كل ما فيها ليسطر بطولة من أمجاد مضت وعادت تحت نبضات الجيل الساطع، التقى قدس واقصى وكان اللقاء الذي لم تمنعه تفرقة الجغرافيا او الجدار الإسمنتي أو القضم للأراضي وللمقدرات والتاريخ، إلتقيا وكان لقاء البقاء او العروج نحو نصر ميمون او شهادة محقّة، خاضا كل بطولات المواجهة وسطرا ملاحم الصمود في وجه آلة تفوق بالمنظور العددي قوة لكنها لا ترتقي إلى مستوى الإرادة.
كانت الأيادي تتشابك، حتى الزناد واحدة، والطلقات تزغرد عبارات أمّيهما بعد أن فتك اليتم بمفاصل الأبوّة، كانت تتلو آيات النصر في محراب الشهادة، فكان الرقي والإرتقاء عنوانين والشهادة خاتمة نضال وبداية تاريخ.
على أعتاب تطلعاتهما المرتقبة لمآل الأمور، كان الإنتظار سيد الوقت الحاسم، "أم قدس" وأم أقصى" برباطة جأش الأمومة وصلابة الموقف والتصبّر استقبلتا جثماني ولديهما قبل أن يواريا الثرى، وكان الوداع الأخير مدثّرين بعلم القداسة الجامعة واستمرار النضال، طبعتا كل منهما على المسامع كلمات من معجم الصمود" يمّه يا قدس ويا اقصى انتو استشهتدوا بس القضية ما ماتت، ورح نربي كل واحد فينا ليكون قدس واقصى وكل الأرض".