بأقلامهم >بأقلامهم
أوقفوا انتهاك حرمة الكلمة
غازي العريضي*
مؤلم القول: لم يعد ثمة سياسة. وفكر سياسي. وخطاب سياسي. وثقافة سياسية. واحترام للمسؤولية والمواقع في لبنان. ثمة تعميم للتفاهة السياسية. والإنحطاط والمصطلحات الخارجة عن الأدبيات لدى المعنيين بتشكيل الحكومة خصوصاً، وفي تصريحات وبيانات وخطابات وتعليقات عدد من رموز ومسؤولي الأحزاب والتيارات عموماً. جميلة هي المعارك السياسية. ضرورية هي للتعبير عن حيوية السياسة، وحرية الفكر والمعتقد والتعبير والتنوّع، وعن الإيمان الصادق بقضية أو رسالة أو موقف. والأجمل أن نحترم ذاتنا والناس ونحن نتوجه إليهم. الأجمل أن نستخدم لغة العقل والمنطق، وقوة الحجة ونحن نقارع الآخر. الدفاع عن القضايا النبيلة والمحقة والتاريخ والذاكرة والحاضر والموقف والقناعة لا يكون بالعشوائية والغوغائية والشعبوية والشتيمة والصراخ لأن ليس ثمة أحد إلا وبإمكانه أن يمارس هذا الأسلوب.
قوة الإقناع بالهدوء. واللوذعي أو السليط لا يكون انفعالياً أو شتّاماً أو دونياً في موقفه ليصيب خصمه ومن يريد انتقاده ومقارعته وصدّه!!
أذكر مرة وأنا في " صوت الجبل " أكتب تعليقاً سياسياً في اليوم الذي ارتكبت فيه مجزرة بحق الضاحية وذهب ضحيتها أطفال ومواطنون أبرياء وعمّ خراب ودمار كبيران، وبعد وعود من المسؤولين باعطائنا " ما يدهش العالم "، فاستخدمت كلمة " فاجر".
مزقت الأوراق أكثر من مرة وأنا أقف عند هذه الكلمة. كنا في حرب. نتخاطب بالمدافع والصواريخ والقنابل والمتفجرات والأفكار، وكنت تحت هول المجزرة وفكرت كثيراً في استخدام تلك الكلمة في يوم كان كل شيئ فيه مباحاً. في النهاية قلتها. ويوم قررت إصدار " كلمات الزمن الصعب " وهي مجموعة التعليقات السياسية، فكرت في شطب الكلمة. لكنني قلت: هي مسجلة بصوتك. وموجودة لدى كثيرين. والأمانة تقضي بإبقائها. ولكن قررت في الوقت ذاته كتابة مقدمة سياسية سردت فيها خلاصة ما تعلّمته وكنت أحرص منذ بداية وعيي السياسي على قياس الكلمة بميزان دقيق، والوقوف عند كل مصطلح وتعبير وأراجع ذاتي وأتعلم من تجاربي وتجارب الآخرين. أقول ذلك لأضيف: ليس مقبولاً ما يجري اليوم. ليس مشرّفاً لأحد في أي موقع كان، رسمي، أو حزبي، أو على علاقة بإدارة شؤون الناس أو توجيههم، أن يتجاوز حدود كرامة الكلمة أو يعتدي على شرفها ومكانتها أياً تكن المبررات. ما سمعناه منذ أيام من مصطلحات " فشرتم " " وطويلة على رقابكم " " أنتم ومن يشد على مشدكم " " لا تنالون من كذا وكذا " ومصطلحات " الأحذية " " والصرامي " وال " تحت الزنار " " ولا تطالون قدم هذا أو ذاك " " والسوقية " " والوقحة " " والسطو " " على الصلاحيات " " والفجور "" ومحاولات الاستيلاء على الدستور " " وتحريف الأمور " " والمستنقعات " " والوحول "، إضافة الى " فوضى القضاء " بل " قضاء الفوضى " للأسف وووو.....
كل هذه البطولات والعنتريات وهمية لا قيمة لها ولا تنفع بعد الخطايا التي ارتكبت في الخيارات والقرارات والسياسات والشراكات والشركات يوم كانت ثنائية متماسكة بين المتصارعين اليوم والمتطاولين على الكلمة وحرمتها وعلى السياسة وحرفتها. وهذه هي النماذج والنتائج أمامنا. وعندما وقعت العدائية بينهم نقف أمام أبواب موصدة وآفاقاً مسدودة. ولا مخارج. فأين أولوية لبنان؟؟ وأين قوة لبنان؟؟ وأين قوة الجمهورية؟؟ وأين نبل وعمق رسالة الكبار في مدارسنا السياسية؟؟
خطاب الشتيمة، شتيمة الخطاب. والقوة الحقيقية في الموقع هي قوة الموقف. قوة التواضع والتهذيب والأدب. أما الاندفاع بالخطاب الى التهور ونشر الغسيل الوسخ بما يزيد التلوث والوساخة – مع الاعتذار – فهو الغرق الحقيقي في المستنقعات ووحولها ولا يعطي امتيازاً لأي من اصحاب الشأن المعنيين سوى الشهادة بالتسبب بالمزيد من الكوارث ليغرق لبنان أكثر.
حبذا لو يفكر المعنيون في كل مواقعهم أو الذاهبون في كل مواقفهم نحو مزيد من التهور والتوتر واستباحة كل الأصول والأعراف والقيم، بحجم الخطيئة ومخاطر ما يفعلون ويرتكبون وأية تربية يعممون، مع التذكير بأن مساحيق الدنيا كلها لن تنجح في تنظيف سجلاتهم، وكأن الشياطين قد نفثت على ألسنتهم، وهم بدورهم ينفثون كلماتهم دون وعي أو رادع ضميري!!
ألا أوقفوا انتهاك حرمة الكلمة واحترموا عقول وكرامات الناس!!
*وزير ونائب سابق