فلسطينيات >داخل فلسطين
المسجد الأقصى في القدس وليس في الجِعْرَانة
المسجد الأقصى في القدس وليس في الجِعْرَانة ‎الخميس 24 06 2021 10:58
المسجد الأقصى في القدس وليس في الجِعْرَانة

د. علي معطي*

هذه الدراسة هي ردّ على المدعو مصطفى راشد الذي يُعرّف عن نفسه بأنّه شيخ أزهري، وباحث، وقاضٍ سابق، والذي قال على إحدى وسائل الإعلام والاتصال: "إن إسراء رسول الله صلى الله عليه وسلم في السنة العاشرة من البعثة النبوية إلى المسجد الأقصى في القدس كذبة كبرى، وإن إسراءه صلى الله عليه وسلم كان إلى المسجد الأقصى الموجود في الجِعْراَنة، وليس إلى بيت المقدس".

وفي ردّه (جريدة "اللواء" 1/6/2021) قال وكيل الأزهر السابق الشيخ عباس شومان عنه: بأنّه "جاهل وكذّاب أشر"، وإنّه "لا صلة له بالألقاب الأزهرية التي يدّعيها".

حقائق لا بد من ذكرها وإظهاراً للحقيقة الساطعة نقول لهذا العالِم المُنافق:

1- إنّ موضع الجِعْرَانة ليس قريباً من المدينة المنورة كما تزعم، ولا يبعد عنها 25 كيلومتراً، بل إن هذا الموضع يقع بين مدينتي مكة والطائف، وعلى بُعد 20 كيلومتراً من البلد الحرام، وعلى بُعد ما يزيد عن 500 كيلومتر من المدينة المنورة، كما أن هذا الموضع كان في العصر الجاهلي خالياً من السكان، ولم تطأ قدما رسول الله  صلى الله عليه وسلم أرضه إلّا في السنة الثامنة من الهجرة إثر غزوة حنين وحصار الطائف، إذ بعد فكَّ النبي  صلى الله عليه وسلم الحصار عن بني ثقيف نزل في الجِعْراَنة، فوزّع غنائم حنين على المُسلمين، وعلى المؤلّفة قلوبهم، ومنها أحرم لأداء العمرة في مكة، ومنها قفل عائداً إلى المدينة.

2- لا يُوجد في الجِعْراَنة قبل الإسلام أي أثرٍ لبناء: سواء أكان منزلاً أو جامعاً أو معبداً وثنيّاً، ولم يبنِ المُسلمون فيها مسجداً إلا في أواخر القرن الثاني للهجرة، مما يدلّ على أن المُسلمين لم يشغلوا أرض الجِعْراَنة بالإقامة والسكن قبل هذا التاريخ. ذلك أن المُسلمين في عهودهم الأولى كانوا، إذا ما أرادوا الإقامة على أرض ما، أو خطّطوا لبناء مدينة معينة، يُبادرون إلى بناء المسجد أولاً، ثم يعمدون ثانية إلى بناء مساكنهم حوله.

3- لم يعش في الجِعْراَنة أنبياء، ولم تكن أرضها مباركة كحال أرض بيت المقدس التي يُوجد فيها المسجد الأقصى، قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم "لا تُشدّ الرحال إلى أفضل من ثلاثة مساجد: مسجد الحرام، ومسجدي، ومسجد بيت المقدس، وصلاة في بيت المقدس خير من ألف صلاة في سواه، ومن صبر على لأوائها وشدّتها جاءه الله برزقه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن يساره ومن فوقه ومن تحته فأكل رغداً ثم دخل الجنة". (كتاب البلدان لابن الفقيه ص 146).

وقالت ميمونة مولاة النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله أَفْتِنا في بيت المقدس، قال صلى الله عليه وسلم: "أرض المحشر والمنشر، ائْتُوهُ فصلّوا فيه، فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره". قلتُ: أرأيتَ إنْ لم أستطع أن أتحمَّل إليه؟ قال صلى الله عليه وسلم "فَتُهْدي له زيتا يُسْرَج فيه، فمَن فعل ذلك فهو كَمَنْ أَتَاهُ". (سنن ابن ماجه، رقم 1407).

وفي بيت المقدس بشّر الله تعالى إبراهيم وسارة باسحاق، وبشّر زكريا بيحيى، وصدّق إبراهيم الرؤيا، وتسوّر الملائكة المحراب على داود، وتاب الله سبحانه عليه، وكلّم عيسى النّاس في المهد، وفي أرضها دفن النبي يعقوب (عليه السلام)، ومريم ابنة عمران، وهي أوّل أرض باركها الله جلّ جلاله، ويُمنع الدجَّال من دخولها، ويُهلك يأجوج ومأجوج حولها.

4- بُنِيَ المسجد الأقصى في مدينة القدس قبل ظهور الإسلام وتولّي عبد الملك بن مروان الخلافة بآلاف السنين، بناه أبو البشر آدم عليه السلام. وعن ذلك يروى البخاري نقلاً عن أبي ذر الغفاري، فيقول: قال أبو ذر لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أيّ مسجد وضع في الأرض أولاً؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المسجد الحرام". ثم قال: ثم أي؟ قال صلى الله عليه وسلم: "المسجد الأقصى". فقال أبو ذر: كم كان بينهما؟ قال صلى الله عليه وسلم: "أربعون سنة، ثم أين ما أدركت الصلاة فصلّي فإن الفضل فيه".

ظلّ بناء المسجد الأقصى قائما حتى طوفان نوح. ففي هذا الطوفان تهدّم هذا المسجد كما تهدّم البيت العتيق في مكة الذي أعاد بناءه النبي إبراهيم والنبي إسماعيل عليهما السلام. أما الأقصى فقد أعاد النبي سليمان بن داود بناءه وأحكمه، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"لمّا فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثاً: فأعطاه اثنتين، ونحن نرجو أن تكون لنا الثالثة: سأله حكماً يصادف حُكمه، فأعطاه إياه، وسأله ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فأعطاه إياه. وسأله أيما رجل خرج من بيته لا يريد إلا الصلاة في هذا المسجد خرج من خطيئته مثل يوم ولدته أمّه، فنحن نرجو أن يكون الله قد أعطانا إياها". وفي رواية أخرى: "وأرجو أن يكون قد أُعْطِيَ الثالثة" (أورده الإمام أحمد، والنسائي، وابن ماجه، وابن حبّان، والحاكم).

وكان بين النبي إبراهيم عليه السلام وبين النبي سليمان بن داود عليهما السلام أكثر من ألف عام، يُضاف إليه الأربعون سنة التي سبقت بناء الكعبة المشرّفة. ويذكر ابن كثير أن يعقوب بن اسحاق عليهما السلام كان أول من اتّخذ مكان المسجد الأقصى مصلّى. ويذكر بعض المفسرين ان إبراهيم (عليه السلام) قد جدّد بناء الأقصى ليكون مصلّى لأبنائه وأحفاده.

وقال عبد الله بن العباس "بيت المقدس بنته الأنبياء وعمّرته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلّا وقد صلّى فيه نبي وقام عليه مَلك".

وقال وهب بن منبّه: أهل بيت المقدس جيران الله عزّ وجلّ، وحقّ على الله ألّا يعذّب جيرانه.

وقال يحيى بن كثير: لا تقوم الساعة حتى يُضرب على بيت المقدس سبع حيطان: حائط من ذهب، وحائط من فضة، وحائط من لؤلؤ، وحائط من ياقوت، وحائط من زبرجد، وحائط من نور. (كتاب البلدان لابن الفقيه).

5- في المراحل التاريخية القديمة التي تمتدّ من عهد سليمان (عليه السلام) إلى أوائل القرن السابع الميلادي، تعرّض المسجد الأقصى لكثير من التخريب والتدمير والإهمال، وذلك بسبب الثورات التي قامت في مدينة القدس، وبسبب غزوات الدول الكبرى التي نشأت في تلك المراحل التاريخية، وكانت أهم هذه الأحداث هي:

أ- الصراع الذي قام بين اليهود أنفسهم، إثر وفاة النبي سليمان عليه السلام سنة 931 ق.م. وانقسامهم إلى دولتين هزيلتين. إحداهما نشأت في شمالي فلسطين بإسم مملكة إسرائيل، كانت عاصمتها مدينة السامرة التي أطلق عليها أحد ملوكهم هيرودس الأوّل (40-4 ق.م) اسم سبسطية، والذي بنى فيها هيكلاً لليهود، وأدخل على بيت المقدس تحسينات جمّة زادت من رونقه وجماله.

والثانية كانت في جنوبي فلسطين، بإسم مملكة يهوذا التي اتخذت من القدس عاصمة لها.

ب- تعرّضت مملكة يهوذا للغزو من قبل ملك مصر شيشنو الأول سنة 926 ق.م، ولنهب عاصمتها أورشليم، وخاصة خزائن الملك، وذخائر الهيكل التي كانت من صنع سليمان (عليه السلام) وعمله، بينها 500 ترس من ذهب.

ج- ولما ظهر الأشوريون على مسرح الأحداث، غزوا مملكة إسرائيل في السّامرة، وسبوا أهلها، في عهد ملكهم شلمنصر الثالث (859-824 ق.م)، وفي عهد ملكهم سرجون الثاني (الذي بدأ حكمه في عام 722 ق.م)، كما غزوا مملكة يهوذا، وحاصروا عاصمتها القدس في عهد ملكهم سنحاريب سنة 701 ق.م. ولم يفكّ الاشوريون الحصار عنها إلا من بعد أن أخضعوا ملكها حزقيا، وأجبروه على دفع إتاوة لهم قدّرت بـ 300 وزنة من الفضة، وثلاثين وزنة من الذهب.

د- أما البابليون الجدد الذين عُرفوا بإسم الكلدانيين، وأخضعوا الاشوريين لنفوذهم، ودخلوا عاصمتهم نينوى عام 612 ق.م. وانتصروا على الملك المصري نَخُو عام 587 ق.م. في معركة كركميش على العاصي، وأخرجوه وجنوده من بلاد الشرق الأدنى. نقول إن هؤلاء الكلدانيين قد غزوا بقيادة ملكهم نبوخذ نصر (605-562 ق.م.) مملكة يهوذا مرتين، كانت الأولى سنة 597 ق.م. وعُرفت بالسبي الأولى، وكانت الثانية سنة 586 ق.م. وعُرفت بالسبي الثاني.

كانت سبايا مملكة يهوذا في الأصل خليطاً من الجنود المصريين والهكسوس الذين لا صلة لهم ببني إسرائيل، ومن بقايا أتباع النبي موسى عليه السلام، ومن الأشخاص الذين دخلوا في الديانة الموسوية وينتمون إلى قبائل شتى. وقد أُطلق على جميع هؤلاء اسم اليهود نسبة إلى مملكة يهوذا، بحيث أصبح هذا الاسم يُطلق على جميع الأفراد المنتسبين إلى الديانة اليهودية في مختلف أنحاء العالم.

استمرّ هؤلاء اليهود في الأسر البابلي (586-539 ق.م.) إلى أن تسلّم الملك الفارسي قورش (عام 539 ق.م.) الحكم في بلاده، ذلك ان الملك الأخميني هذا، فبعد أن فتح بلاد بابل فيما بين عامين 538 و539 ق.م. واحتل سوريا وفلسطين، سمح لهؤلاء الأسرى بالعودة إلى بيت المقدس، ثم أعاد إليهم كنوز الهيكل التي كان نبوخذ نصر قد سلبها منه، وأمر بإعادة بناء هذا الهيكل في أورشليم على نفقة بيت الملك الفارسي.

هـ- كانت الفترة التي أعقبت هذه العودة فترة هدوء واستقرار إلى أن جاء الإسكندر المقدوني من بلاد اليونان، وغزا بلاد الشرق، وأخضع فلسطين كلها لسلطانه.

غير أن هذا القائد الفذّ قد وافته المنية وهو في ريعان الشباب (13 حزيران 323 ق.م.)، فتقسّمت الإمبراطورية التي أنشأها بين قواده الثلاث، فكانت فلسطين تتأرجح بين حكم البطالسة في مصر، وبين حكم السلوقيين في سوريا. ولكن فلسطين لاقت في عهد الملك السلوقي انطيوخوس الرابع (أبيفان) (175-164 ق.م.) كثيراً من الاستبداد والتسلّط، إذ أقدم هذا الملك على دخول أورشليم وتدمير هيكلها ونهب خزائنه، وإجبار اليهود على نبذ ديانتهم واعتناق الوثنية اليونانية.

ولما وصل الرومان إلى الشرق العربي، وتغلّبوا على السلوقيين في بلاد الشام، أصبحت فلسطين تحت حكم روما، واحتلّ القائد الروماني بومبيّ سوريا وضمّها إلى سلطته عام 64 ق.م. وفي العام التالي دخل مدينة القدس، وجعلها تابعة لحاكم سوريا العام المعيّن من قبلهم.

أما خلفاء هذا الإمبراطور فقد عيّنوا على مملكة يهوذا والجليل الملك هيرودس الأدومي سنة 39 ق.م. الذي استمر حتى وفاته سنة 4 ق.م. والذي أعاد بناء بيت المقدس من جديد، كما بنى لليهود هيكلاً في مدينة السامرة التي أطلق عليها اسم سبسطية كما ذكرنا قبلاً.

بعد وفاة الملك الأدومي، اضطربت الأحوال في فلسطين بسبب سوء تصرّف المُوظفين الرومان، وبسبب اضطهاد اليهود للنبي عيسى عليه السلام الذي بعثه الله بينهم، ورفعه إليه عام 29م.

ولمّا ثار سكان مملكة يهوذا ومدينة القدس على الحكم الروماني عام 66م، دخل القائد الروماني تيطوس ابن الإمبراطور فسبسيان مدينة أورشليم، وقضى على الثورة فيها، وخرّب معالمها، وأحرق هيكلها، وذبح علماءه، وعدداً كبيراً من اليهود، وساق الآخرين عبيداً، وكان ذلك في عام 70م. وقد بالغ المسعودي عندما قال أن عدد القتلى من اليهود والنصارى كانوا ثلاثة آلاف (التنبيه والإشراف، ص110).

على أثر هذه المذبحة ساد الهدوء في فلسطين حوالى نصف قرن، ولما اشتعلت الثورة من جديد بقيادة أحد زعماء اليهود المدعو "بادكوخيا" ودامت ثلاث سنوات (من عام 132 إلى عام 135م)، جرّد الرومان عليهم حملة عسكرية ضخمة بقيادة الإمبراطور هادريان اجتاحت مواقعهم وأزالت قلاعهم وأحرقت قراهم ومدنهم التي كان من بينها مدينة القدس، التي حوّلها هادريان إلى مُستعمرة رومانية وحكمها حكماً مُباشراً، وحرّم على اليهود السكن فيها، وأطلق عليها اسمه الأول: "إيلياء"، وأسكن فيها أقواما آخرين بعد أن خرّب معالمها وهدّم معابدها، وقتل عدداً كبيراً من أهلها. (وقد بلغ عدد الذين قتلوا في هذه المعارك ما يقارب 580 ألفاً، عدا من هلك جوعاً ومرضاً وحرقاً).

ولا جرم أن هذه الضربة التي وجهها هادريان الروماني إلى اليهود كانت الضربة الأخيرة التي تلقّاها هؤلاء في فلسطين، بحيث انهم لم يعد لهم أي وجود أو كيان فيها طوال العصور التالية.

ز- لقد كانت لهذه الأحداث أثر كبير في انتشار المسيحية، وتفوّقها على الديانات الأخرى في الشرق والغرب معاً، وخصوصاً بعد أن اعتنق الإمبراطور قسطنطين الأول المعروف بالكبير (280 - 337م) النصرانية، ونقل عاصمة بلاده من روما إلى بيزنطية التي كانت قرية صغيرة على مضيق البوسفور وسمّاها باسمه القسطنطينية (عام 330م) (وهي استامبول اليوم).

وكانت خطواته الأولى: إصداره مرسوماً، مَنح بموجبه للمسيحيين حرية العبادة في جميع أقطار الإمبراطورية الرومانية (313م)، وبناءه كنيسة القيامة في القدس، وفي المكان الذي حاول فيه اليهود قتل عيسى عليه السلام (يُطلقون عليه النصارى اسم الجلجلة)، وإدخاله إصلاحات كثيرة على المدينة المُقدّسة التي زارتها والدته الإمبراطورة هيلينا عام 326م، وأشرفت على إعادة بنائها وإعمارها.

ولما اعتلى جوليان (أو يوليانس) عرش الإمبراطورية البيزنطية (361-363م)، انحرف عن المسيحية، وأمر بإعادة بناء هيكل المدينة أي المسجد الأقصى الذي هدمه هادريان. وبذلك نستطيع القول بأن المسجد الأقصى كان موجوداً وقائماً، عندما أسرى الله تعالى برسوله محمّد صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، لا كما يدّعي هذا الشيخ المنافق المدعو مصطفى راشد.

وفي ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أُتيتُ بالبراق - وهو دابة أبيض طويل فوق الحمار ودون البغل، يضع حافره عند منتهى طرفه - فركبتُ حتى أتيت بيت المقدس، فربطته بالحلقة التي يربط بها الأنبياء، ثم دخلت المسجد فصلّيتُ فيه ركعتين ثم خرجت، فجاءني جبريل عليه السلام بإناء من خمر وإناء من لبن، فاخترت اللبن. فقال جبريل عليه السلام: أخترتَ الفطرة، ثم عرج بنا الی السماء". (أخرجه الإمام مُسلم في صحيحه عن أنس بن مالك).

6- ومما تجدر الإشارة إليه أن هذا المسجد قد تعرّض للإهمال من قبل السلطات التي حكمت سوريا وفلسطين في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام بقرنين أو أكثر سواء أكانت فارسية وثنية، أو بيزنطية مسيحية - وخصوصاً بعد أن انتشرت الوثنية بشكل واسع في مُعظم أقاليم شبه الجزيرة العربية وفي بلاد الشام والعراق، حيث أن الحرم القدسي الشريف وأبنيته قد تحوّلت في الفترة التي سبقت فتح المُسلمين لبيت المقدس، مكبّاً للنفايات وبقايا الأبنية.. وهذا ما جعل عمر بن الخطاب يصعب عليه التعرّف على المسجد الأقصى وبقعة الإسراء والمعراج. وقد استعان باكتشافه وتثبيته لهذه البقعة بالبطريرك صفرونيوس الذي كان أهم شخصية دينية في فلسطين حينذاك.

وتذكر المصادر الإسلامية أن الخليفة عمر، وبعد أن أنهى مراسم التسلّم والتسليم مع البطريرك، وأعطى البطريرك عهدته المشهورة، وأخذ منه مفاتيح المدينة، طلب من صفرونيوس أن يدلّه على مكان الإسراء والمعراج، فوافق البطريرك، وخرج مع عمر في موكب كبير يضمّ أعيان المسيحيين والمُسلمين.

سار عمر والبطريرك بجانبه، مع مُرافقيهم حتى دخلوا بيت المقدس المسودّة، مُتجهين إلى المكان الذي عُرّف بأنه المسجد الأقصى، وتوقفوا عنده. ويبدو أن المكان كان مطموراً بالأوساخ وببقايا أحجار وأعمدة وأسقف من مبنى كبير. ولما رأى البطريرك صفرونيوس منظر المكان أو الخراب قال لعمر: لن نقدر أن ندخله إلا حبواً، فأجابه عمر: "ولو حبواً"، فحبا البطريرك وحبا خلفه عمر ومن معه حتى أفضوا إلى صخرة بيت المقدس... نظر عمر بن الخطاب حوله بشيء من التمعّن والتأمّل، ثم التفت إلى من حوله قائلاً: "هذا والله الذي وصفه لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم"، ثم سجد وسجد المُسلمون معه.

ولما كشف عمر الصخرة وعلم مكانها، ملأ ذيل قميصه من الزبل الذي كان عليها وحمله، وملأ النّاس كلّهم أذيال ثيابهم تشبّهاً به، وألقوه بالوادي... وأمر عمر المُسلمين بالصلاة في موضع جنوبي الصخرة، حيث يقع جامع المغاربة حالياً، وأذّن بلال للصلاة بعد أن كان قد اعتكف عن الآذان بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وصلّى المُسلمون، وصلّى بينهم عدد كبير من كبار الصحابة - رضوان الله عليهم أجمعين - كان من بينهم: أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، وخالد بن الوليد، وأبو هريرة عبد الرحمن بن صخر وعبدالله ابن سلّام، وعوف بن مالك الأشجعي، ومعاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، وعبادة بن الصامت الذي كان أول من وَلِيَ قضاء فلسطين وسكن القدس ومات فيها، وشدّاد بن أوس المحدّث المشهور الذي روى عنه المؤرخون المُسلمون فتح بلاد فلسطين، وعاش في القدس ومات فيها.. وغيرهم وغيرهم.

قبل أن يُغادر الخليفة عمر بيت المقدس، أمر المُسلمين ببناء مسجد في الموضع الذي أمّ فيه المُسلمين للصلاة قرب الصخرة، وفي المكان الذي عُقِلَ فيه البراق خلال المعراج، بحيث يكون مُحاذياً لسور المسجد الأقصى من جهة القبلة. وكان هذا المسجد في غاية البساطة، بناه المُسلمون من عروق خشبية ضخمة، وجعلوه مربع الشكل ليتّسع في وقت واحد لحوالي ثلاثة آلاف من المصلّين المُسلمين.

7- إنّ اسم المسجد الأقصى قد اقتبس من قول الله تعالى: {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا  إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (الإسراء آية 1)، فالله سبحانه وتعالى أسرى برسوله  صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أي الأبعد الذي يُوجد في مدينة القدس البعيدة عن مكة وحرمها، وليس إلى موضع الجِعْرانة القريب جداً من مكة وحرمها وكعبتها، (كما أشرنا إلى ذلك في رقم 1 من هذا الرد)، وبذلك تكون هذه الآية الكريمة قد كذّبت هذا الشيخ المزيّف الذي ينتمي على ما أعتقد إلى فئة يهود الدونمة الذين يكثر وجودهم في بلاد المُسلمين.

8- إن المساحة التي يشغلها الحرم القدسيّ تبلغ 141 دونماً، وتشتمل على القسم المُغطّى من المسجد الأقصى في الجنوب، ومن الصخرة المُشرّفة في الجهة الشمالية، ومن المساطب والأروقة والقباب والسيل والمحاريب والساحات المزروعة.

أما المسجد الأقصى الذي جدّد بناؤه الخليفة عبد الملك بن مروان، وأتمّه ابنه الوليد، كان ضعف مساحة البناء الموجود حالياً، وذلك يعود إلى أن الخليفة الفاطميّ المعزّ لدين الله قام بتضييق مساحته، فأزال من جهة الغرب أربعة أروقة، ومن جهة الشرق أربعة أخرى، بحيث أصبح طوله 88 متراً وعرضه 35 متراً، ويقوم على 53 عموداً و49 سارية مربعة الشكل.

ويصف ابن عساكر المسجد الأقصى الذي جدّد بناءه عبد الملك على الشكل التالي: كان فيه من الخشب المسقف سوى أعمدة خشب، ستة آلاف خشبة، وبه خمسون باباً، وله ستمائة عمود من رخام، وفيه خمسة آلاف قنديل، يُسرج معها شمعة ليلة الجمعة، وليلة نصف رجب، ونصف شعبان، ونصف رمضان، وفي ليلتي العيدين. وفيه خمسة عشرة قبّة سوى قبة الصخرة، وعلى سطح المسجد من شقف الرصاص سبعة آلاف شقفة وسبعمائة، ووزن الشقفة سبعون رطلاً شامياً عدا عن الذي على القبة المشرّفة.

وعندما أراد أن يبني مسجداً على قبة الصخرة المشرّفة استشار عبد الملك كبار العلماء والفقهاء وأولي الرأي من المُسلمين، وأرصد له خراج مصر على مدى سبعة أعوام، وسكب على قبّته الذهب المُذاب، حتى غدا درّة في جبين العمارة الإسلامية. وفي ذلك أجمع المؤرخون والأثريون على أن قبة مسجد الصخرة نالت من الاهتمام شأواً عالياً، وبلغت من الكمال والبهاء والروعة ما لا يزيد بعده لمزيد. وفي هذا المعنى قال المُستشرق الإنكليزي هايتر لويس في كتابه "الأماكن المُقدّسة": "أن مسجد الصخرة بلا شك من أجمل الأبنية الموجودة فوق هذه البسيطة، لا بل إنّه أجمل الآثار التي خلّدها التاريخ".

إنّ عناية المُسلمين بالمسجد الأقصى على مرِّ العهود الإسلامية، وخاصة عندما كان هذا المسجد يتعرّض للتصدّع أو التهديم بسبب زلزال أو اعتداء عدو، كان ظاهراً جداً. لقد جعل المُسلمون من بنائه مثالاً لطراز العمارة الإسلامية المُتميز. وجعلوا من تضحياتهم الكبرى مثالاً يُحتذى في الدفاع عن المُقدّسات والأرض والدين. والحمد للّه رب العالمين، الخبير العليم، الغفور الرحيم، وإليه المصير.

*عضو اللقاء الإسلامي الوحدوي

المصدر : اللواء