لبنانيات >أخبار لبنانية
خارطة طريق بابوية للبنان "واضحة وصارمة وغير قابلة للتأويل"
الاثنين 5 07 2021 11:10بشارة غانم البون
“حدث نادر شهدته عاصمة الكثلكة التي انشغلت دوائرها الفاتيكانية بيوم لبناني طويل قلّما عرفته في السابق”. هكذا يُعلّق ديبلوماسي عتيق، خبير بشؤون الكرسي الرسولي على مدى اكثر من ثلاثين عاماً، على الساعات العشر التي خصّصها البابا فرنسيس لـ”لبنان الحبيب الذي احمله في قلبي”، على حد قوله. وقد سجلت الأوساط المتابعة لملف العلاقات الفاتيكانية – اللبنانية ملاحظات على هامش جلسات هذا اليوم الطويل، وأبرزها الآتي: -اظهار مدى الاهتمام الشخصي للبابا فرنسيس ومدى التزام المؤسسات الفاتيكانية بلبنان “ليس فقط تعبيراً عن القلق الكبير على وجود شعب ومصيره بل أيضاً حرصاً على مستقبل بلد صغير بحجمه وكبير برسالته”.
-الحفاوة المميزة التي خصّها الكرسي الرسولي لرؤساء الكنائس غير الكاثوليكية، أي الأرثوذكسية والانجيلية في مقر اقامة البابا في بيت القديسة مارتا، في اشارة الى حرصه على التأكيد على احترام مكانة وخصوصية كل طائفة في اطار وحدة الكنيسة الجامعة.
-الصراحة التي اتسمت بها مداخلات المشاركين في جلسات العمل الثلاث المغلقة وقد التزم خلالها البابا فرنسيس الصمت حيث استمع لكل شرح وبدا متأثراً به. -الهالة الاحتفالية التي طبعت الصلاة المسكونية في بازيليك القديس بطرس في حضور كنسي وديبلوماسي وشعبي واداء التراتيل باللغة العربية. -التغطية الاعلامية الاستثنائية للحدث حيث أمّنت شبكة الاذاعة والتلفزيون الخاصة بالفاتيكان نقل وقائع الحدث من خلال بث مباشر الى كل الاذاعات والتلفزيونات الدينية حول العالم مع الترجمة الفورية المواكبة، وبالتالي اعطاء زخم روحي وإعلامي جديد للقضية اللبنانية في خضم تسارع المشاكل التي تشغل العالم.
الرسائل والإشارات وفي قراءتها لمجريات مجمل هذه اللقاءات وتصورها لمفاعيلها، تتوقف هذه الاوساط عند النقاط الآتية:
أولاً، أبرزت مداخلات رؤساء الكنائس وممثليها تعددية في الآراء وتمايزاً في المواقف (توافق في نقاط وتباين حيال نقاط اخرى) وهي جاءت كما ارادها الفاتيكان مساحة تعبير حر لكل مكون مسيحي ولكل جماعة كنسية تتحدث عن هواجسها ونظرتها لواقع الأمور (خلافاً لمحاولة بكركي الذهاب بورقة مشتركة الى اللقاء).
ثانياً، الرسائل والاشارات المباشرة التي تضمنتها كلمة البابا كانت “ابلغ واهم واعمق وأفعل” من مجرد بيان ختامي مبهم وعام. وقد اعتبرت هذه الاوساط ان مداخلة البابا جاءت بمثابة “وثيقة بابوية رسمية، مكتوبة ومترجمة، واضحة وصارمة ومتكاملة، لا مجال للتلاعب بمفرداتها ولا تغييب لبعض مضمونها ولا اساءة تفسير لمعانيها، من هنا ضرورة الالتزام بنصها غير القابل للتأويل”.
ثالثاً، الاشارة الأولى التي رغب الفاتيكان ارسالها كانت في اتجاه الكنائس المسيحية الشرقية غير الكاثوليكية.. والارثوذكسية تحديداً. وهي بدأت مع الاستجابة لطلب كاثوليكوس بيت كيليكيا للأرمن الأرثوذكس آرام الأول صاحب المبادرة بالدعوة الى مثل هذا اللقاء المسيحي الجامع. ورأت هذه الأوساط ان هذا الحدث يشكل “خطوة مهمة على طريق التقارب المسيحي – المسيحي ومدماكاً قوياً في عملية بناء رؤية مستقبلية مشتركة في منطقة تعصف بها صراعات مقلقة على المصير والوجود والهوية”.
رابعاً، “الصرخة” التي اطلقها البابا باسم الشعب اللبناني “المحبط والمنهك” جاءت “بنبرة حازمة ومؤثرة” من أعلى منبر كنسي كاثوليكي وشكلت بسلسلة النداءات التي تضمنتها حسب هذه الأوساط “خارطة طريق انقاذية متعددة الاتجاهات لكل جهة معنية فيها مسؤولية محددة”.
الاتجاه الأول؛ الداخل اللبناني: دعوة ملحة ومتكررة برسم الجميع، وخصوصاً الى “من في يدهم السلطة وكل القيادات السياسية من اجل التخلي عن المصالح الخاصة والمنافع الانانية”. وقد سمع المشاركون في أروقة دوائر الكرسي الرسولي وخلال اللقاءات الثنائية مع مراجع فاتيكانية كلاماً قاسياً بحق المسؤولين اللبنانيين مع تحميلهم مسؤولية الانهيار الشامل.
الإتجاه الثاني؛ المحيط الاقليمي: طلب “عدم استخدام لبنان لمصالح ومكاسب خارجية ووقف التدخلات الخارجية”.
الاتجاه الثالث؛ المجتمع الدولي: مطالبة المجتمع الدولي بـ”توفير الظروف لمنع غرق هذا البلد”.
الاتجاه الرابع؛ الإغتراب اللبناني: دور لبنانيي الشتات كان حاضراً ايضاً في اهتمامات البابا ومن هنا كانت دعوته لهم من أجل “وضع طاقاتهم ومواردهم في خدمة وطنهم الأم”.
الاتجاه الخامس؛ الشباب والنساء: شدد البابا فرنسيس على دور هاتين الفئتين في اعادة بناء المجتمع اللبناني. رابعاً، تتوقف الأوساط عند الرغبة البابوية في ابقاء الفاتيكان بعيداً عن كل المناورات والطروحات من اي جهة سياسية او كنسية اتت خصوصاً انها تدرك دقة الظرف الاستثنائي والخطير وحساسية استخدام اي عبارة او الالتزام باي تصور. لذلك غابت كلياً عن مواقف البابا المعلنة اي اشارة الى دعوات الحياد او المؤتمر الدولي أو اي خيار سياسي داخلي او اي تحرك خارجي.
وفي هذا الاطار، أوضحت هذه الأوساط ان الديبلوماسية الفاتيكانية، التي يتسم تحركها بالدقة والموضوعية وينطلق من اعتبارات واقعية وعلمية، تعتبر انه قبل تقديم اي جهة او اي مرجعية اي طرح او اي خيار، يجب اعداد آلية واضحة للتنفيذ وخصوصا القيام بدراسة مسبقة لمعرفة ما اذا كانت كل الشروط الداخلية والظروف الخارجية متوفرة لنجاح اي مبادرة والا فانها ستعطي نتائج عكسية.
ولكن ماذا بعد هذا اليوم وماذا عن آليات المتابعة في محاولة لضمان فعالية هذا الحدث؟
أولاً، تلفت الاوساط الى ان اهتمام البابا ومعه مختلف المؤسسات الفاتيكانية بلبنان لم يبدأ مع هذا اليوم ولم ينته معه فهو دائم ومتواصل، وأعطت مثالاً على ذلك ما سبق هذا اليوم وما تبعه.
ففي الاسبوع الذي سبق استضاف الفاتيكان الجمعية العامة لهيئة “رواكو” (مجموعة مؤسسات دعم الكنائس الشرقية) حيث كان الوضع اللبناني وكيفية زيادة المساعدات الانسانية والصحية والتربوية له في طليعة مواضيع بحث المشاركين في هذه الاجتماعات التي امتدت على عدة ايام.
وفي اليوم التالي لليوم الفاتيكاني المخصص للبنان كان الموضوع اللبناني من بين مواضيع البحث التي اثارها البابا لدى استقباله رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي.
ثانياً، وزارة الخارجية لدى الكرسي الرسولي على تواصل مستمر مع العواصم الدولية الكبرى وفي مقدمها واشنطن وباريس، “تتشاور” مع الاولى و”تنسق” مع الثانية. وكان الملف اللبناني حاضراً خلال زيارتي رئيسي الديبلوماسيتين الاميركية (أنتوني بلينكن) والفرنسية (جان إيف لودريان) الاخيرتين الى روما ومحادثاتهما في الفاتيكان.
ثالثاً، بدأ البحث في وضع آلية للمتابعة، إلا انه لا بلورة حتى الآن لأي صيغة محددة (من بين هذه الافكار تشكيل لجنة متابعة تضم عدداً من المختصين والخبراء المتابعين للعلاقات اللبنانية – الفاتيكانية).
رابعاً، في اطار مواكبة ومتابعة الحدث الفاتيكاني – اللبناني من المتوقع ان يقوم السفير البابوي في بيروت المونسنيور جوزف سبيتري بعد عودته من روما بداية الاسبوع بسلسلة اتصالات ولقاءات تشمل القيادات الدينية الاسلامية اللبنانية لشرح نتائج لقاء الاول من تموز/يوليو والتأكيد ان لا نية لتقوقع الجانب المسيحي او التحرك بشكل منعزل بل “الرغبة في العمل معاً في اطار الانفتاح والاخوة والحوار” مع الجانب الاسلامي وتعزيز التواصل والتعاون معه. وزيارة السفير البابوي الاخيرة في منتصف الشهر الماضي الى الجنوب اللبناني كانت البداية وستعقبها زيارات ولقاءات مماثلة في اكثر من منطقة ومع اكثر من مرجع.
واللافت للإنتباه ان البابا في كلمته حين اشار الى ضرورة بناء الاخوة وتعزيز السلام مع المسلمين شدد على “سلام ليس فيه غالبون ومغلوبون”، في استعادة للشعار الذي أطلقه الرئيس الراحل صائب سلام “لا غالب ولا مغلوب”!.
خامساً، سيقوم السفير اللبناني لدى الكرسي الرسولي فريد الياس الخازن باتصالات أثناء وجوده في لبنان نهاية هذا الشهر للتشاور مع السلطات السياسية والمراجع الدينية اللبنانية في سبل تفعيل نتائج اللقاء الفاتيكاني والاتفاق على آلية فعالة للمتابعة.
سادساً، زيارة البابا فرنسيس الى لبنان مقررة لكن توقيتها لا يزال غير محدد وهو مرتبط بتوفير الظروف الداخلية اللبنانية الملائمة. وتشير هذه الاوساط الى أن زيارة رأس الكنيسة الكاثوليكية الى بيروت تحكمها نفس الشروط التي جعلت الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون يؤجل زيارته الثالثة الى العاصمة اللبنانية، أي أن الأولوية لتشكيل حكومة لبنانية جديدة.
سابعاً، تحرص الاوساط العليمة على التوضيح ان كلاماً كثيراً قيل وكتب في الايام الاخيرة عن خطط فاتيكانية “لا اساس لها” وانه ينبغي على الجهات اللبنانية المعنية “التخلي عن الأوهام”، مشددة على “ضرورة تحمل كل الجهات السياسية والكنسية والاعلامية مسؤولياتها والتصرف بصدق وشفافية وتجرد في هذا الظرف الدقيق الذي يجتازه لبنان”.
في المحصلة، يُعرب الديبلوماسي العتيق والعليم عن الأمل في ان لا يطول الانتظار وان تسرع كل الجهات المعنية للتجاوب مع نداءات البابا مخافة ان يأتي يوم يزور فيه رأس الكنيسة الكاثوليكية لبنان ولا يجد فيه شباناً وشابات يحملن مصابيح كالتي حملوها اليه في الاحتفال الكنسي الاخير وذلك بفعل الهجرة المتعاظمة، وان وجدت تلك المصابيح ربما لا يتوفر لها الزيت للاضاءة بسبب النقص والعوز!.