بأقلامهم >بأقلامهم
أقفلوا باب الفدرالية
أقفلوا باب الفدرالية ‎الخميس 8 07 2021 13:52 غازي العريضي
أقفلوا باب الفدرالية


عندما قدّرنا ان الوضع في لبنان دخل المرحلة الأخيرة من مشروع حرب الحروب الذي انطلق عام 1975 وكان هدفه التقسيم وتصفية الوجود الفلسطيني على الساحة اللبنانية، وهما أمران متلازمان في سياق المشروع الاسرائيلي الأميركي، انطلقنا من مراقبة ومتابعة وقراءة ما جرى ويجري في المنطقة منذ توقف الحرب في لبنان، وبالتحديد العمل على تقسيم الدول العربية وتفتيتها وقد حصل هذا الأمر رسمياً في عدد منها وهو في الدستور والواقع في عدد آخر!! الأخطر أن ذلك يتزامن مع اندفاعة قوية منذ فترة طويلة وبلغت مرحلة متقدمة في الأسابيع الأخيرة عنوانها: " الفدرالية هي الحل ". وقد ذهب دعاة هذا " الحل " المبني على أوهام وتضليلات وتمنيات الى إعداد خرائط لتقسيم جغرافيا البلد وتوزيع ديموغرافيا أهله في مناطق أو تجمعات لا " تركب " على عقل بشري. وكأن شيئاً لم يتغير في تفكير بعض اللبنانيين وتمنياتهم بل وقناعاتهم ب " أننا لا نستطيع أن نعيش معاً "!! " نحن من ثقافات وحضارات متعددة ولدينا قناعات وامتدادات وعلاقات وعادات مختلفة ".

خطيرة هذه القناعات والاندفاعات. والأخطر أنها تأتي في مرحلة تستوجب وحدة الجماعات للمحافظة على الثروات وأبرزها "التنوّع" الفريد الاستثنائي في لبنان. النعمة التي لا نراها في أي بلد في العالم. وإذا كان دعاة حل الفدرالية يذهبون اليه انطلاقاً من الانقسامات والخلافات حول الخيارات والسياسات والعادات والتقاليد والثقافات ورجحان الكفّة في ميزان السلطة والصلاحيات لمصلحة فريق أو فئة، والحديث عن تغيـّر صورة لبنان ودوره، وانتهاء لبنان الذي نعرف، آخذين في الاعتبار الواقع الاقتصادي الاجتماعي المالي المنهار وبالتالي يكون الهروب الى " الوراء " الى " الجنون " الى " الانتحار " الى "الاستقلالية " فهذا نعي للصيغة اللبنانية ولرسالة ودور لبنان. 

مع ذلك أقول بصراحة وشجاعة أدبية: لا يمكن لأي طرف أن يقدّم مقاربة لحل استراتيجي مصيري للبنان على حطامه وركامه دون أن يقدّم مطالعته ومراجعته في تجربته ومسؤوليته في سياساته وخياراته على مدى عقود من الزمن وعلى الأقل منذ عام 1943 وحتى اليوم ولاسيما في مراحل الحرب وبالتحديد في أسبابها.

أي تصرف عكس ذلك هو هروب من الحقيقة والحق. فالذين أداروا البلاد منذ " الاستقلال " وحتى اليوم – ودون تعميم بالتأكيد – وذهبــوا الى الخيارات الانتحارية وعاثــوا فيها فساداً مسؤولون، ولا يجوز تجاوز تضحيات ونضالات وطنيين وتجاربهم المشتركة في التصدي لهم.  وإذا كنا لا نفتح الملف كاملاً في هذه المقاربة السريعة، ولو تنكّر أصحاب " حل الفدرالية " لمسؤولياتهم المشار إليها فإنني من موقع المعرفة المتواضعة جداً بالتاريخ والسياسة وواقع الدول قياســـاً على " خبــراتهم " " وكفـاءاتهم " " وتميزهم " " وعبقرية " بعضهم، " وعنصرية " بعض آخر على الأقل أعرف مثل كثيرين في لبنان  أن ثمة دولاً فدرالية في العالم، وبالتالي اقتراح الفدرالية ليس أمراً يجب أن يثير الاستغراب من هذه الناحية.

ما يثير الاستغراب هو تذاكي الفدراليين الجدد. نعرف مع الكثيرين واقع جغرافيا الدول الفدرالية. ووقائع الديموغرافيا والتاريخ والمال والاقتصاد والتجارب فيها وهي مختلفة عن لبنان. نعم مختلفة. في تلك الدول، دولة مركزية قوية ولا مركزية موسّعة إدارية تنموية في ولاياتها.

جيش واحد متماسك قوي وسياسة مركزية تحدّد العدو من الصديق. فيها هوية واحدة. وعلم واحد. وكتاب تاريخ واحد. وكتاب تنشئة وطنية واحد. وإمكانات مالية بموارد مباشرة قوية. كل هذا غير موجود عندنا. وما كان موجوداً دمّرته سياسات الأحلاف والخلافات والحروب بسبب الخلافات على الهوية والانتماء وعدم وجود التزام وطني واحد وثقافة واحدة مستندة الى كتابي التاريخ والتنشئة الواحدين. تكتب كتب عن هذه الحالة. وإذا استمر الوضع على ما هو عليه فنحن ذاهبون الى أخطر مما نعيشه اليوم. 

الفدرالية ليست الحل. التنوّع ضمن الوحدة هو الغنى. هو الثروة، ولا أعتقد أننا عاجزون عن " اختراع " صيغ تتلاءم مع كل المراحل التي نواجه فيها تحديات ويستهدف فيها بلدنا تحفظ التنوّع وتكرّس الوحدة، وخصوصاً اليوم.المصائب واحدة. الهموم واحدة. لكن الاهتمامات ليست واحدة. والصائب يجب ألا يكون واحداً والمصيب يجب أن لا يكون واحداً أيضاً. مشروع الفدرالية اليوم وكما يطرح وانطلاقاً مما ذكرت هو مشروع " دويلات " غير لبنانية في واقع الحال. أقول ذلك بصراحة. لأن الامتدادات " الفكرية  " " والثقافية " " والسياسية " " والمالية " ستحوّل البلد الى كيانات غريبة على أرض لبنانية. لا. هذا ليس حلاً للبنان وليس أملاً للبنانيين. هو مشروع انتحار وخراب ودمار بكل ما للكلمة من معنى. وهذا ما يريده الآخرون. لا يعني قولي هنا اتهام كل الذين ينادون به ب " العمالة " لا قدر الله. وإن كان في تاريخنا القديم والحديث القريب القريب من ذهب في هذا الاتجاه ودعا الى التقسيم وراهن على عدونا التاريخي والمستقبلي اسرائيل!! 

وبعد التطورات التي شهدناها ونشهدها، ومقاربة لبنان على الزوال، وحالة التخلي عنه رغم كل مسرحيات التدخلات والمبادرات من هنا وهناك، مقومات نجاح مشروع الفدرالية وكما يريده أصحاب الإندفاعات الأخيرة في هذا الاتجاه ليست متوفرة. وبالتالي ينبغي التفكير بعقل بارد لمواجهة حجم المشاكل والتحديات المصيرية الخطيرة التي يواجهها لبنان ومستقبله. وهذا يحتاج الى " العقل الجماعي " " والفعل الجماعي " لأن لبنان وطننا جميعاً. وأخطر الأمراض الإنغلاق لا يسعنا معه التفكير بإنفتاح وهدوء بل تسيطر علينا أنانياتنا وآنياتنا وأحقادنا وإنفعالاتنا. فكيف ونحن في عصر القرية الكونية الواحدة وهواتفها الذكية وما يسمى الذكاء الاصطناعي فهل ننغلق ونقفل عقولنا ودوائر ذكائنا الطبيعي؟؟

لبنان على مفترق خطير. " وثمة مخطط يعدّ له. ولكن هل نفتح الباب لأصحابه "؟؟ هذا ما قاله البطريرك الراعي أمس وهو مصيب في قوله. أقفلوا باب الفدرالية كي لا يكون الباب الأخطر من أبواب نهاية مرحلة ال 75 وزوال لبنان!!

المصدر : جنوبيات