ثقافة وفن ومنوعات >ثقافة وفن ومنوعات
في الذكرى الثالثة عشر لرحيل أيقونة الثقافة والشعر الفلسطيني والعربي ... محمود درويش
الأحد 8 08 2021 08:58د. عبدالرحيم جاموس
حل محمود درويش في 9/8/2008م عن دنيانا ملبيا نداء الرفيق الأعلى إثر عملية جراحية للقلب ، كان المرحوم يعي درجة خطورتها ، لكنه اقدم على القبول بإجراءها دون تردد او وجل مسلما امره لله ، بكل شجاعة طالما اتسم بها محمود طيلة حياته .
الذي لم يكن يخشى من الموت يوما ،سوى أنه كان يخجل من دمع امه اذا ما مات ، فكان لوالدته ان تتجرع حصرته وتنهمر دموعها على فراقه ، ويذهب محمود الى الرفيق الأعلى وهو خجلا من دمع امه .
اليوم نحيي الذكرى الثالثة عشر لهذا الرحيل الخجل والمبكر لشاعرنا وايقونتنا الثقافية والأدبية محمود درويش، الذي كان صورة لفلسطين وشعبها .
لقد شكل الشعر في الثقافة العربية ومنها الفلسطينية مكوناً أساسياً من مكوناتها قديماً وحديثاً ومثل صورة العرب في جميع مراحلهم وجميع صورا ، فكان تأريخا لهم ، فقد سميَّ الشعر ديوان العرب، ونحن اليوم نحيي الذكرى الثالثة عشر لرحيل الشاعر محمود درويش جسداً في التاسع من أوغست/ آب الجاري، نجد أن محمود درويش يحيا معنا وبين ظهرانينا من خلال ارثه الشعري والأدبي الكبير ، يتعلمه صغارنا كما قرأه وحفظه كبارنا ، إنه عصي على النسيان وعلى الإختزال، فقد مثل محمود نموذجا خاصا في الثقافة الفلسطينية والعربية على مدى خمسة عقود من عمره، تمكن من التماهي مع الشعر في كافة أبعاده الغنائية والموسيقية والإنسانية والوطنية، فقد وجد محمود درويش نفسه في القصيدة وفي الشعر فكانت سلاحه الأبرز والأمضى في البحث عن الذات وعن فلسطين الأرض والوطن والشعب والثورة والهوية والقضية بكل أبعادها التراجيدية والإنسانية ، وترك بصمته الثقافية على الثقافة الفلسطينية والعربية والدولية، التي يشهد له بها إنتاجه الشعري والنثري على السواء، واضعاً قضيته في إطارها الإنساني الواسع والصحيح والمشرق ، مستخدماً تقنيات وفنيات الشعر بأبعادها البلاغية والرمزية المختلفة، لم يكن أسير الجمود والأيديولوجيا وسطوتهما وسطوة القوالب الجاهزة ،بل كان متحرراً من القوالب الجامدة والماضوية والأيديولوجيا ، كان منفتحا إلى وعلى آفاق إنسانية رحبة ، نقلته ونقل بها القضية الفلسطينية معه إلى العالمية من اوسع ابوابها الثقافية والإنسانية والسياسية على السواء ..!
لقد كانت باكورة علاقتي الشخصية بدرويش وشعره في العام 1969م عندما كنت في بداية المرحلة الثانوية مع قصيدته (سرحان فدائي وليس بقاتل) تلك القصيدة التي عرفت من خلالها محمود درويش وشعره المقاوم وألق ابداعه ورمزيته وسعة خياله الشعري الجميل ،شأني شأن ابناء جيلي في تلك المرحلة القاسية عقب نكسة حزيران .. ولا أنسى لقائي المباشر به وحضور أمسياته الشعرية الجميلة والجماهيرية في ربيع العام 1973م، عندما زار المغرب الشقيق (حيث كنت طالباً جامعياً فيه حينذاك) بدعوة من إتحاد كتاب المغرب العريق، الذي كان يرأسه حينها صديقه الناقد والروائي الكبير الأستاذ الدكتور محمد برادة، وقد نظم له عشر أمسيات شعرية غطت المدن الرئيسية للمغرب الشقيق مبتدئاً بمدينة الرباط وفي مسرح محمد الخامس الذي رغم إتساعه لم يتسع للحضور يومها، مما اضطر المنظمون إلى تركيب شاشات خارجية لتلبية رغبة الحضور الكثيف .. هذا المشهد تكرر في كافة أمسياته في المدن المغربية ..
فقد استطاع محمود درويش أن يضع لنفسه المكانة اللائقة به وبفلسطين التي يمثلها في الثقافة العربية وبين الجمهور العربي الذي عشق فلسطين ودرويش وشعره ، الذي يحمل رسالتها الوطنية والقومية والإنسانية بكافة أبعادها النفسية والإجتماعية والسياسية والفنية ، وقد إستطاع درويش أن ينقل شعره إلى المستويات الأوسع عالمياً وفنياً لتترجم أعماله إلى عشرات اللغات العالمية، حتى الصينية، عندما نسقت معه رحمه الله لترجمة (ديوان أعراس) إلى الصينية على نفقة وزارة الإعلام السعودية سنة 1985م، حيث كان يومها يقيم في باريس ، أتصلت عليه وأبلغته برغبة باحث صيني مقيم في الرياض حيث يتابع دراساته العليا في الأدب العربي بترجمة (ديوان أعراس) وأن وزارة الإعلام السعودية ستتكفل بطباعته باللغة الصينية، فأعطى موافقته ومباركته لهذا العمل فورا وبلا شروط ..
محمود درويش أيقونة الشعر والثقافة الفلسطينية والعربية بلا منازع،حتى بعد مرور ثلاثة عشر عاما على رحيله ، ونحن نحيي ذكراه الثالثة عشر للرحيل ، يبقى هو وشعره حاضرا فينا ومتسيدا على عرش القصيدة الفلسطينية والعربية في عمقها الوطني والقومي وبعدها الأنساني ،سيبقى شعر محمود درويش نبراسا خالداً وسيبقى رمزاً كبيرا للهوية الوطنية والقومية والإنسانية بكل أبعادها ....
عصية على الزوال والإندثار وسيبقى ملهماً للشعراء والأدباء وللأجيال من بعده، كان درويش متوافقاً مع ذاته، مندمجاً في الشعر إندماج الملح في الماء، مدركاً خصوصية وعمومية رسالته الأدبية الإنسانية، كان محمود درويش ظاهرة سهلة الهضم والفهم و عصية على التقليد، لأنه خرج من نطاقات التقليد إلى أرقى مستويات الإبداع والرموزية الأدبية والشعرية منها خاصة ، ليمثل مدرسة شعرية قائمة بذاتها.....
نحن اليوم نحيي ذكراه الثالثةعشر لنؤكد على ضرورة العناية بإرثه الثقافي الأدبي النثري والشعري، وتعميمه لما فيه من رسالة إبداعية وطنية وقومية إنسانية متكاملة كتكامل تقدم الرواية الفلسطينية في ابهى صورها الإبداعية ، و شخصية محمود ورمزيته الادبية والوطنية والانسانية وما مَثله من دور بالغ الأهمية في مسيرة الكفاح الوطني وتقديم القضية والرؤيا الفلسطينية للصراع، مخترقا بها ساحات دولية ادبية وثقافية كانت حكرا فيما مضى على الصهاينة وانصارهم ، ولما للأدب والشعر والثقافة من دور تعبوي فعال في مسيرة الكفاح الوطني .
رحم الله شاعرنا الكبير محمود درويش.