ثقافة وفن ومنوعات >ثقافة وفن ومنوعات
مبادرة عاشورائية فردية.. خدمة نقية ودعوات صادقة.. وفاء ناصر
وفاء ناصر
غالبا ما نسمع كلمات جميلة تترك أثرا آنيا، تستقر قليلا ولا تلبث ان تتلاشى، ويحدث احيانا ان نمر عليها مرور الكرام دون أن نعيرها اي اعتبار، بيد ان تلك الدعوات الصادقة الصادرة من أشخاص قلوبهم طيبة لا تزال تؤثر به سيما تلك العبارات النقية التي ينطق بها كبار السن وتختزل هموم الدنيا. "الله يرد عنك وعن اولادك بهالعمل الطاهر" معها تقشعر الأبدان وحتما تتلاشى الماديات.
اعتدنا في الأيام العشر الأوائل من شهر محرم الحرام على معايشة مراسم ومظاهر متنوعة تبدأ بالرايات السوداء وتلاوة المجالس العاشورائية ولا تنتهي برؤية المضافات التي تفترش الطرقات ليلا نهارا لتروي ظمأ العطاشى وتشبع البطون الخاوية، وغيرها من الصدقات والتبرعات السرية والعلنية... غير ان مبادرة الدكتور نزيه جابر كانت ملفتة شكلا ومضمونا.
دأب الدكتور نزيه_ وهو طبيب صحة عامة واخصائي أطفال_ منذ العام 1992 على معاينة المرضى الذين يقصدونه مجانا طيلة الأيام العشر الأوائل في عيادته الكائنة في بلدة عنقون من التاسعة صباحا حتى الواحدة ظهرا. غير ان هذه المبادرة الفردية ليست محصورة بأبناء البلدة فقط بل بالقرى القريبة جغرافيا منها؛ اي حومين التحتا، رومين، بنعفول، عرب الجل وعرب طبايا.
وبما ان الطب رسالة انسانية سامية، فهو لا يفرق بين مريض يقصده سواء أكان من الجنسية اللبنانية أو من المقيمين من الجنسيات الاخرى (سوري، فلسطيني...). ولا يعنيه موضوع الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها المريض ولا مستواه المعيشي. فنيته الصافية موجهة للجميع سواء أكانوا بحاجة لها ام لا.
وفي مقابل إصرار بعض الأشخاص الميسورين على دفع بدل المعاينة وهذا ما لا يقبله الدكتور نزيه، آخرون يجدون فيها لفتة إنسانية جميلة تعفيهم من عبء ثقيل دون منّة، سيما في الوقت الراهن حيث تبلغ كلفة المعاينة كما سعرتها نقابة الأطباء 150 الف ليرة، وكثيرون لا يملكون من هذا الرقم الا القليل. و"على مثل هذه الأمور لا تقف الحياة".
اما عن نسبة الاقبال في هذه الايام المباركة، يقول الدكتور نزيه انها كانت ولا تزال كبيرة، والإعلان عن المبادرة بات شكليا.
في السابق كان يعمد إلى اخبار أحد سكان البلدات المجاورة فيضع هذا الأخير على عاتقه مهمة إذاعة الخبر عبر مكبرات الصوت في مسجد بلدته. لاحقا أصبح هدف الإعلان التذكير بها فقط. فهي معروفة سواء أعلن عنها ام لم يعلنها وقد "أصبحت مثل الطابع: عاشوراء يعني د. نزيه جابر ما بياخد".
وانطلاقا من حرصهم على مصلحة الدكتور نزيه خاصة في ظل الاوضاع الصعبة التي يعانيها اللبنانيون جميعا، تحدث البعض معه في موضوع عدم تفعيل هذه المبادرة حاليا ريثما تتبدّل الاحوال وتستبد الامور. لكنه لم يقبل عازما على الاستمرار بها حتى الرمق الاخير وعازيًا الأمر إلى سببين.
الاول هو ان الخالق يسخّر الانسان ويدفعه لفعل الخير. فالمبادرة في نظر الناس هي "خدمة صادقة".
والثاني يتمثل في البركة التي تحل عليه في هذه الأيام الفضيلة وعلى من يقصده. إذ في ظل ازمة فقدان الأدوية وصعوبة الحصول عليها، يحاول يوميا تأمين المطلوب ويعمد إلى توزيع العينات التي يحصل عليها كما يتواصل معه الآخرون لتزويده بأدوية صالحة للاستعمال لإعطائها للمحتاجين لها. ورغم ذلك يبقى النقص موجودا ولا يسد الحاجة المطلوبة ف"قصة الأدوية شغلة كبيرة".
وبعكس الأطباء الماديين يحاول بكل ما يملك من معرفة وما يتيسر له من أدوية ان يعالج الحالات دون أن يكلفهم عناء الدخول إلى المستشفى نظرا لتكاليفها الكبيرة.
صحيح ان هذه المبادرة الخيّرة اقتبست كما كل الأعمال والمبادرات من واقعة كربلاء التفاني، الإخلاص، النية الصادقة... لكنه أصرّ على ألا يضيع الخير في متاهات الماديات أو يتوه عن مساره الصحيح، فوجد أن في ما يقوم به راحة وسعادة لا مثيل لهما لان نية الخير موجودة والطريق واضح لا لبس فيه.
وعن الرسالة التي يوجهها للأطباء، فهو إذ يطلب منهم الصبر على هذا الواقع المرير، يريد منهم التخفيف عن كاهل المريض لأنه لم يعد مريضا فقط "وإنما متلف الاعصاب نتيجة الهموم الكثيرة فوق رأسه". ويناشدهم تبسيط الامور على المرضى وضرورة الترفع عن الماديات. إذ بنظره "يجب دارسة حالة كل مريض وأن نكون معه وجنبه وليس ضده. ولن نخسر شيئا لو اشتغلنا على العنصر النفسي والكلمة الحلوة".