عام >عام
الوحدة العربية والعولمة المؤمركة
السبت 13 08 2016 16:02بقلم ساسين عساف
بعد انهيار الاتحاد السوفياتي بدأ كلام على نظام دولي جديد تقوده الولايات المتحدة الأميركية وتحاول أن تجعله ايديولوجيا الربع الأخير من نهاية القرن العشرين. هذا النظام عرف بالعولمة. قوانينه وآلياته جعلت العالم محكوماً باشكالية الالتحام والتشظّي. ما جعله نظام فوضى وتداعيات وعدم استقرار ولا نهاية تاريخ بعكس ما يدّعي فوكوياما.
أوروبا الغربية، في دائرة الالتحام، شكّلت النموذج الأشدّ تعبيراً عن ايجابيات هذا النظام وذلك بعد سقوط حائط برلين وتوقيع معاهدة ماستريخت واتفاق الغات. دينامية هذا النموذج هي دينامية سياسية/اقتصادية تسعى الى فتح الحدود والأسواق والأنظمة.
دول الاتحاد السوفياتي السابق خصوصاً الدول الاسلامية في آسيا الوسطى، دول أوروبا الشرقية، في دائرة التشظّي، شكّلت النموذج الأشدّ تعبيراً عن سلبيات هذا النظام وذلك بانفجار فيدرالية تشيكوسلوفاكيا واندثار يوغوسلافيا وعمليّات التطهير العرقي والاتني في دول البلقان فضلاً عن توتّر متصاعد بين ذاتيّات مناطقية في ايطاليا واسبانيا وكندا وبلجيكا. دينامية هذا النموذج هي دينامية النزاعات الأهلية، دينامية الانشطار الثقافي على أساس الاتنيات والقوميات والمذاهب الدينية. وهي دينامية تسعى الى حماية الذاتيات أو الخصوصيات في اطار أقاليمها الجغرافية ومآويها الثقافية.
بين هذين النموذجين في نظام العولمة دخل العرب دائرة التشظّي بعد حرب الخليج الثانية وتداعياتها وبعد مؤتمر مدريد وتداعياته، من اتفاق أوسلو الى اتفاق وادي عربة وانتهوا إلى ما هم عليه اليوم من حروب وفتن، فتعثّرت معها وتراجعت مسيرة الحركة القومية وارتفعت حدّة الخطاب القطري وما دونه، تحديداً الخطاب المذهبي فضلاً عن التكفيري، وتسارعت الهرولة في اتجاه العدو الصهيوني وتطبيع العلاقات معه لا بل الإستعانة به على خصوم الداخل العربي..
الكلام على العرب في دائرة التشظّي لا يشطب كلاماً على بعضهم في دائرة المقاومة والصمود فهؤلاء لم يخرجوا من التاريخ ولم يستسلموا للتداعيات التي أنتجتها العولمة المؤمركة. المقاومة داخل فلسطين، المقاومة في جنوب لبنان، المقاومة الشعبية للتطبيع مع العدو في مصر والأردن، صلابة الموقف الشعبي المتمسّك بالهويّة العربية هويّة واحدة موحّدة للوطن العربي وعلى اعادة تركيز النظام العربي بدءاً باحياء وتطوير وتفعيل وتعديل مؤسسات العمل العربي المشترك والمؤسسات الوحدوية، كلّ هذا يشير الى أنّ القوى الحيّة والوحدوية في الوطن العربي، على الرغم من جميع الانتكاسات والحروب والفتن تبقى الرهان على مستقبل عربي قادر على التعامل مع قوى العدوان الأميركي/الصهيوني/الأطلسي من موقع قومي متماسك.
هذا الواقع العربي المتصدّع والمتداعي في جانب والمقاوم في جانب آخر تسعى قوانين العولمة المؤمركة وآلياتها الى اجتياحه:
أوّل هذه القوانين وأولى هذه الآليّات القانون والآليّة الاقتصادية/السياسية/الأمنية.. فالعولمة تسعى الى ابقاء الدول النامية موضوع تحكّم واستغلال، ما يسهم في تعميق الهوّة بين الشمال والجنوب. فالشمال يمتلك القدرة على تحريك ثلاثة أرباع النشاط الاقتصادي في العالم لأنّه يشكّل خمس سكّان هذا العالم ويسيطر على أربعة أخماس دخله. والعولمة، ثانيا"، تعمل على رفع القيود الجمركية بين الدول على قاعدة الحدود المرنة أو المفتوحة لتسهيل حركة العبور الى أسواق الشعوب النامية وتصريف انتاج الدول الصناعية الكبرى. وهي تعمل، ثالثاً، على تفاقم مديونيات الدول النامية ما يسهّل سبل استثمارها واستغلالها واستتباعها سياسياً فينشأ نمط جديد في العلاقات الدولية قوامه المعادلة الآتية: تفاقم الدين/تعميق الارتهان. فالاستتباع السياسي يعطّل دور الحكومات في ادارة شؤون دولها وشعوبها ويضبط أداءها بما هو لحساب الدول الدائنة وهو يعيق تالياً حركة تطوّرها الديموقراطي ويفرض على تلك الشعوب حكم الأنظمة القهرية. وتعطيل دور الحكومات يفضي الى الغاء دور الدولة لحساب دور المؤسسات الخاصّة في مختلف المجالات والقطاعات. هذا والمؤسسات الخاصّة المحلّية غالباً ما تكون مرتبطة بشركات عالمية وتابعة لها.
اتفاق الغات الموقّع عام 1994 حرّر السلعة في سوق المبادلات العالمية، المالية والتجارية. عولمة السلعة فتحت أمامها الأسواق وأزالت القيود الجمركية والادارية والسياسية التي كانت تعيق حركتها في النظام الدولي السابق. والحركة التجارية، بهذه الشروط، تضعف الاقتصاد المحلّي لحساب الاقتصاد العالمي الذي تتحكّم به الدول الصناعية الكبرى.
الاقتصاد العربي ليس معزولا" عمّا يحصل في العالم. ثمّة تكتّلات اقتصادية عملاقة تسيطر أو هي طامعة في السيطرة على ثرواته. وهي تكتّلات تديرها شركات عالمية متعدّدة رأس المال نافذة داخل السلطات المحلّية، تتجاوز مفهوم الحدود والسيادة ولا تتوانى عن فتح الحدود السياسية وكسر القوانين التي تحمي الساحات الوطنية والقومية. هنا دور الدول أو الحكومات، بالمعنى السياسي، هو دور الشرطي أو الحارس المؤتمن على حقول الاستثمار والإستغلال الأجنبي.
هذه التجلّيات ترسم بوضوح معالم النظام الاقليمي الجديد المتحدّر من نظام العولمة والمعدّ أو الذي يجري اعداده لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا على قاعدة الغاء الوطن العربي جغرافياً وسياسياً واقتصادياً وأمنياً وثقافياً واسقاط النظام العربي وتصفية مؤسساته كافة وجعل الاقتصاد القاعدة الجديدة في اعادة تنظيم أوترتيب أحوال الوطن العربي بما يتجاوز حدوده ومصالحه وحقوق شعبه بهدف فتحه أمام المشروع الصهيوني، مشروع التفكيك والهيمنة.
المشروع الصهيوني يروّج لنظام اقليمي جديد يسعى الى أن يقوم على أنقاض النظام العربي مستفيداً من الحروب والفتن الدائرة في الوطن العربي.
الهدف إخضاع العرب وشرذمتهم وتفكيك دولهم وتعميق تناقضاتهم وشطب الهويّة العربية.
عند هذا الهدف يتوافق المشروع الأميركي المعدّ للوطن العربي مع المشروع الصهيوني.
هذا المشروع الأميركي/الصهيوني أخذ طريقه إلى التنفيذ منذ إحتلال العراق وبرز بأشدّ وجوهه وضوحاً بإسهامه في تحويل ما سمّي ب"الربيع العربي" إلى فصل إرهابي تخريبي إفنائي لكلّ ما هو عربي.
هذا المشروع حتى الآن يلاقي الكثير من التعقيدات ويصادف مقاومة عربية شرسة متعدّدة في مواقعها ومستوياتها في العراق وفلسطين وسوريا ولبنان، من المقدّر، في حال استمرارها، أن تعزّز الوضع العربي وتدفعه الى الصّمود والتماسك فيحقّق وحدة المواجهة لآماد بعيدة تنتهي بانتصار فكرة الوحدة العربية.
بعض العرب منخرط في المشروع الأميركي/الصهيوني وبعضهم يقاومه بقوّة.
بعض العرب منخرط في عملية التطبيع الاقتصادي والسياسي والأمني والثقافي مع العدو بحجّة الخطر الذي تشكّله الجمهورية الإسلامية في إيران على دول الخليج العربي فتحوّلت وجهة الصراع التاريخي من صراع عربي/صهيوني إلى صراع عربي/فارسي. وبعض العرب حالف إيران لتدعيم الخطّ المقاوم.
في المنطقة، اذاً، تتصادم مشاريع سياسية واقتصادية وأمنية وثقافية. التصادم مستمرّ والمسألة لم تحسم، تتجدّد الحروب فيها وعليها.
في خضمّ هذه الحروب والفتن وجدت بعض الحكومات والأنظمة العربية نفسها في مواجهة شعوبها فترسّخت الأنظمة القهرية بأشكالها كافة واتّسعت رقعة النزاعات وصعدت بقوّة حركات دينية جهادية وتكفيرية ناشطة لإسقاطها ما أوحى أنّ الاسلام السياسي وحده يواجه نظام العولمة دفاعاً عن خصوصيات المسلمين وحقوقهم في الحرية والثروة. وهذا ما أوحى تالياً أنّ الاسلام لا العروبة في خطّ المواجهة الايديولوجية والعسكرية الجهادية مع قوى الاستكبار تأكيداً وأدواته.. أطلّ "الربيع العربي" ليقدّم لحركة الإخوان المسلمين الفرصة الذهبية كي يركب "الثورات العربية" ويستأثر بها ويجعلها في خدمة مشروعه السلطوي مدعوماً من قوى دولية (أميركا) وإقليمية (تركيا)
العولمة المؤمركة وجدت في الإسلام السياسي ما يرضي طموحات الإخوان المسلمين في تسلّم السلطة مقابل الإعتراف بالكيان الصهيوني ما جعل السياسة الأميركية تتخلّى بسرعة موصوفة عن الحكومات والأنظمة الحليفة وتدخل المنطقة في حروب وفتن تجرّد العرب من هويتهم العربية وتقضي على حلمهم وحقّهم بالوحدة، وذلك:
- لإبقاء اسرائيل دولة قوية ومحورية، لا بل الدولة الأقوى اقتصادياً وعسكرياً وتكنولوجياً، والدولة/المحور بين دول منطقة الشرق الأوسط وذلك قبل وبعد اعتراف هذه الدول بشرعية وجودها.
- السيطرة التامّة على ثروة العرب النفطية لما لهذه الثروة من تأثير في تعزيز موقع الولايات المتّحدة في قيادة العالم وفي اضعاف امكانية قيام قوى دولية قد تهدّد هذا الموقع ..
العولمة، من منظور فهم الاستراتيجية الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، أسقطت المعايير الجيوبوليتيكية التقليدية للوحدة العربية.. فالوحدة للتحرير ليست الآن ممكنة. الوحدة للتنمية المستقلة شروطها الآن غير متوافرة. الوحدة للانخراط في نظام المصالح الاقتصادية مع قوى اقليمية ودولية صاعدة تناهض المشروع الأميركي الأمبراطوري تبدو مستحيلة التحقّق. الوحدة لحماية الأمن القومي لا تقلّ عنها استعصاء واستحالة.
بالرغم من كلّ هذا تبقى الوحدة العربية مشروعاً إنقاذياً أوحد لكلّ ما هو عربي..