بأقلامهم >بأقلامهم
لافتات طنبوريت "بالموجود جود"
جنوبيات
صحيح أن اللافتات الإرشادية والمرورية تلعب دورا مهما في إرشاد المارة وإيصالهم إلى مقصدهم بأمان واطمئنان. لكن هذه الوظيفة العملية وإن بدت متعاظمة في المدن والطرقات الرئيسية والأماكن السياحية إلا أنها تتضاءل في القرى والبلدات الصغيرة لا سيما النائية.
يحدث أن نقصد أماكن جديدة لسنا معتادين على طرقاتها ولا نعرف طريق الوصول إليها، وكي لا نفسد مخططاتنا ومشاريعنا نعمد إلى تذليل تلك العقبة بالإعتماد على تطبيق تحديد المسار في السيارة أو عبر الاجهزة الالكترونية.
نحدد الوجهة وننطلق وفق المسار المحدد مسبقا، نُصيب أحيانا ونخفق أحيانا اخرى بالاعتماد عليه. وكم مرة وجدنا أنفسنا امام طريق مسدود، عند مفترق طرق أو في مكان خاطئ ووقفنا حائرين، وكم مرة لعنّا التطبيق الالكتروني وحمّلناه كامل المسؤولية...
ولتصحيح المسار نعتمد على حدسنا تارة وعلى عنصر الصدفة تارة أخرى، بيد أن أفضل تطبيق واقعي نتّكل عليه أبدا ومشهود بنجاحه هو التطبيق البشري الإجتماعي الذي يعتمد على عبارة "عم من وين الطريق؟" مسبوقة بتحية لبنانية تناسب طبيعة المكان الموجودين فيه.
قد يبدو للوهلة الأولى أن عبارة الترحيب التي تذعن بالوصول إلى المقصد أنهت الهاجس. لكن في الحقيقة يبدأ مشوار الضياع معها تحديدا. نخفف من سرعتنا ونصب كل تركيزنا على المعالم المميزة التي من شأنها أن ترشدنا إلى مقصدنا، معالم قد تشكل علامة فارقة.
لكن هذه المعاناة الممهورة بشغف الاستكشاف وتأمّل المعالم الحضارية المميِّزة لكل بلدة تتلاشى كليا حينما نقرر المرور بطنبوريت، البلدة المزنرة بالأشجار الخضراء المعمرة، الواقعة في قضاء صيدا.
هنا، لا مزيد من "أهلا بكم" ولا من "رافقتكم السلامة"، فعند سكان لا ينفكون يرددون مَثَلهم الشهير "بطنبوريت يا بتاكل أكلي يا بتاكل أتلي" لا شيء اعتيادي، حتى لافتات طرقاتهم طوّعوها وأبت إلا أن تستعير من طينتهم الروح المرحة وحس الفكاهة، حتى زخرت بالأمثال والحكم والأقوال المأثورة.
في بداية طريقك إلى هذه البلدة المسالمة تطالعك لافتة "من هون ع طنبوريت"، بعدها بأمتار قليلة يتلاشى القلق بعد تخطيك المنعطفات "القاسية" وتبدأ المتعة الفعلية مع لافتة "بعد لحظات طنبوريت".
لا مبالغة في وصف الشعور المميز الذي يرافقك طول الدرب والذي لا ينتهي بانتهائه. فالفرحة التي تكتسبها ليست وليدة لافتة واحدة بل تراكم عبارات مكتوبة "بتشيل الهم عن القلب" مثبتة على جذوع الأشجار والأعمدة الخشبية؛ تقارع إحداها الأخرى وتنافسها في محتواها.
هذه العبارات المتنوعة وإن كانت تنقلك من السلبية إلى الإيجابية ومن الغموض إلى الوضوح بفعل بساطتها وزخم مضمونها الذي يحوي نصائح اجتماعية وأمثال شعبية مثل "السر بالسكان مش بالمكان" وحكم "من راقب الناس مات هما" إلا أنها ترشدك بدقة نحو طريقك وتعطيك فكرة واضحة عن جغرافية البلدة "طنبوريت شدّ طلوع"، عدد سكانها "ما تسرع كتير عددنا قليل" ونفسياتهم "بالموجود جود"، خيراتها "زيتاتنا شغل دياتنا" وعن تعلق أبنائها بوطنهم "تراب الوطن غالي". كما انها تبعد الملل عن المارين فيها وتدفعهم لا شعوريا لإسقاط محتوى لافتة ما على واقعهم...
منذ سنوات خلت لم يكن يحتاج هذا العمل البسيط الباعث للتفاؤل إلى موازنة ضخمة لإنجازه ولا إلى مجهود فني عظيم.
ألبير فرنسيس حينما ابتكر الفكرة كتب عباراته الأولى على قطع كرتون بخط يده قبل أن يتم استبدالها بالحديد. وبعد أن ظفرت البلدة ببلدية اهتمت مع نادي النسر الابيض بتطويرها شكلا ومضمونا لتشمل كل الطرقات، وقد أشركا الأهالي في هذا الأمر.
إن كمية السعادة التي تظفر بها عند مرورك بالبلدة في بلد ظروفه قاتلة للبهجة حتما لا تعوّض. ورغم اعتياد أبناء طنبوريت على هذا العنصر المميز لبلدتهم و"تجييره" غالبا لمصلحتهم و"تنكيهه" بالطرافة واعتماده لإلقاء النهفات والدعابات، إلا أنهم لا يخفون فخرهم وفرحتهم حين يلحظون إعجاب الآخرين به، كونه بلا شك محصلة ذوق بشري ورغبة في التغيير والتميّز.