عام >عام
عدنان مروة الصديق الصدوق
السبت 21 05 2022 09:42جنوبيات
صديقاً صادقاً فيه تمسَّكْ
فإنَّ صـداقةَ الأخيارِ درعٌ
تقيكَ من الدنايا إنْ تمسَّكْ
ما أكثر ما جمعتنا الصداقة معا ولأكثر من خمسين عاما. عملنا سوا، وسهرنا سوا وسافرنا سوا واجتزنا الحواجز معا ومَخَرنا العباب معا. ولكلّ منها قصة. كان عدنان أستاذي، ولكن رغم فارق التراتبية، وما أهمّها في الطب، تصادقنا. أتذكُرُ يا عدنان لمّا أقمنا حفل تخرّج الأطباء المقيمين في مقهى على البحر؟ فأخبرنا الراقصة أن من معنا: الدكتور وليم بيكرز، هو رئيسنا جميعا، نطلب منك أن تتمايلي له وتناغميه. كانت هي على منبر ونحن تحتها على كراسينا وهو الأقرب إليها. وبعد بضعة كؤوس، نادانا كعادته: Get me the Speculum, My Boy.
أما الحواجز فأذكر منها واحدا بين بيروت الغربية والشرقية وكنا في سيارة يقودها الدكتور نجيب أبو حيدر. كان عدنان يجلس بجانبه وأنا في المقعد الخلفي. وصلنا إلى الحاجز السوري فأوقفنا وقال: «الهواوي». أجابه الدكتور أبو حيدر كعادته بثقة بالنفس واعتداد: أنا الوزير نجيب أبو حيدر. فما كان من الجندي أن قال: «في كتير منهم هول. هاتوا الهواوي؟»، صَدَق قول ذاك الجندي، بعد بضع سنوات يصبح الجالس قرب السائق وزيرا، عُرف بمناقبيته وشفافيته وأخلاقه. وبعد بضع سنوات أخرى أصبح الجالس في المقعد الخلفي وزيرا أيضا. فإذاً على وقع: «في كتير منهم هول»، غدا كلٌّ من في تلك السيارة وزراء.
أما الثاني فكان أثناء الاحتلال الإسرائيلي وكان لهم حاجز على المرفأ. نزلنا من الجبل، الدكتور سمير نجار، نتمنّى له الصحة، وعدنان وأنا، أوقفنا الضابط فقلنا له: «نحن أطباء من الجامعة الأميركية ونعمل في مشفاها»، ظنّاً منا أن كلمة أميركية ستشفع بنا وتعني جواز المرور. فإذا به يقول: «ارجعوا من حيث أتيتم»، ناشدناه وأخبرناه أن المرضى بحاجة إلينا، لم يصغِ وقفلنا عائدين، وبقينا عن المستشفى لفترة بعيدين.
وأمّا البحار، فأذكر يوما أننا كنا مدعوّين إلى جامعة الإسكندرية في مطلع السبعينات لنُجري بعض العمليات الجراحية. أقنعني عدنان أنه بدلاً من أن نأخذ الطائرة إلى القاهرة ومنها بالسيارة إلى الإسكندرية، نأخذ الباخرة رأسا إليها، ويا هول ما رأينا! حجزنا في الدرجة الأولى. وإذ الفرق بينها وباقي الدرجات، أن مستوى المياه في الأولى خمسون سنتمترا فقط، أما باقي الدرجات فتغمرها المياه. كانت الباخرة تتسع لخمسمئة شخص وكان عليها أكثر من ألفين. قضينا الليل كلّه على سطحها حتى وصلنا الإسكندرية. توقفت في المرفأ وكأنه يوم الحشر. ألفا شخص سينزلون منها والكل يتزاحمون. وكان في انتظارنا أطباء من الجامعة، فلم يستطيعوا أن يُنْزِلونا. ولحسن حظنا كان رئيس الوزراء المصري خالاً لأحدهم، فأتت لنا مواكبة من رئيس الوزراء حتى تمكّنا من النزول إلى اليابسة بعد ساعات.
وفي السفر أيضا، في إحدى زيارات العمل إلى تونس، جاءتنا طبيبة من أصول لبنانية تودِّعنا وأودعتنا عشر صناديق من التمر لأخيها في بيروت. هنا لا أذكُرُ إذا لم نعثر عليه قبل وصولنا أو بعده! ولكنني أذكر أننا تقاسمناها، هذا الصندوق لك وهذا لي، ما يكفي مؤونة عام من التمر، مما حمل أصدقاءنا على الدعاء لنا بتكرار زيارة تونس الخضراء.
وأما اللعب فكانت طاولة الزهر، فرنجية ومحبوسة، تسليتنا في المسبح، نلعبها بينما عائلاتنا تلهو في المياه. سقىالله أيام السمرلاند.
وفي أثناء الحرب لم نترك عملنا يوما، بقينا في المستشفى ننام فيه ليلا ونتقاسم العمل نهارا، إلى أن جاء عام ١٩٨٦ وجاءني تهديد جديّ، فرافقني عدنان إلى إحدى المرجعيات، لا بل أهمّها، وقد لفتني فيه أنه لم يضع عينه في عيني.أدركت بعدها جديّة الأمر. وغادرت إلى فرنسا، لم أُطِقْ البقاء بعيدا عن بيروت ولبنان وعملي، فعِدْتُ، تاركا عائلتي هناك. في تلك الحقبة كثير من الأسرار، يعرفها عدنان وأعرفها أنا ولكننا لا نبوح بها. تلك الحرب القذرة، التي مهما بلغت في قذارتها لا تساوي بعضا من قذارة ما نعيشه اليوم من نهب وسرقة وذلّ، وما بلغناه من بؤس وإفلاس وظلمة ومرارة عيش.
عن عدنان المعلّم والصديق والأخ يطول الكلام، لكنني سأقف عند بضع صفات يتحلّى بها وقليلا ما نلقاها بين الرجال. الصفة الأهمّ، التي تطبع شخصيته وأخلاقة وتصرّفاته هي التواضع، نادرا ما نرى رجلا بتواضع عدنان ونادرا ما يتكلم عن نفسه أو يعتدّ بما بلغ، وقد بلغ الكثير: رئيسا لدائرة الجراحة النسائية والتوليد، عميدا لكلية الطب، نائبا لرئيس الجامعة، وزيرا وعضوا في جمعيات ومؤسسات عالمية. نرى الكثيرين ممن لم يبلغوا جزءا مما بلغه، يتباهون بأنفسهم ويتكلمون عن شخصهم بتيهٍ وخُيَلاء. كثيرا ما يكون عدنان في تلك الجلسات صامتا لا يتكلم. يستمع إلى ما يتبجّحون به، وهو في عدم استكباره لا يردّ ولا يبوح. التواضع من أهم صفات الرجال، خاصة حين يبلغون شأنا عاليا كما بلغه عدنان.
لكن كِبَرَ الرجال لا يقاس بتباهيهم، بل يُقاس بتواضعهم ورفعة أخلاقهم، وهو مِثْلُ من قال:
تواضَـعْ فكنْ كالنجم لاحَ لناظرٍ
على صفحات الماء وهو رفيع
ولا تكُ كالدُّخان يرفعُ نفسَـه
إلى طبقات الجوِّ وهو وضـيع
ما أكثر الدخان وما أندر النجوم.
إلى رندة وريّا وزينة ورمزي وزياد أقول: نِعْمَ الزوج المحب الكريم، والأب الودود المتفاني. هؤلاء آبائي فجئني بمثلهم.
عدنان نفتقدُك في جلساتنا، نفتقد حضورك ونفتقد صمتك ونفتقد سكينتك وتجاربك الغنية. لطالما أغنيتنا بسعة اطّلاعك وفيض معلوماتك وفهمك. أعطيت مثلاً للأجيال الطالعة بالإنسانية وأثريت لبنان بعلمك ومعرفتك واللبنانيين والعرب بمهاراتك وسمو صفاتك.
مَلْبَسُه بسيط، خطواته متأنّية وصوته خافت ومكتبه مُفَشْكَل، فلو رتّبته له لما عَرِفَ أين يضع ذاك الكتاب. عُرف بصفارته.. يصفّر حينما يدخل غرفة الولادة ويصفّر حالما يخرج منها. لم أعهده يصفّر في مكان آخر. وكان صفيره ذاك يُهدّئ أعصابه وأعصاب المريضة وأهلها. حتى إذا ما واجهوه بالسؤال بعد الولادة، «لماذا بنت يا دكتور؟ ألم يتصل بك الإستيذ؟» كانت الصفّارة ردّه.
يقود سيارته بنفسه، ويذهب إلى الدوائر العليا سيرا على الأقدام. هادئ، خافض النبرة، مُقلّ في الكلام، وفي مشيته كما قال الخيام:
إمشي الهوينا إنّ هذا الثرى
من أعينٍ ساحرة الاحمرار
فكم توالى الليـل بعـد النهـار
وطـالَ بـالأَنْجُمِ هذا المـدار
أطفئ لظى القلب يشهد الرضاب
فإنما الأيامُ مثـلُ السـّحـاب
هكذا مرَّت الخمسون عاما وكأنها لَحْظُ سراب.
عَرَفْتُ عدنان طيلة هذه السنوات، عرفْتُه في ربيع العمر وفي خريفه والشتاء، وهو هو. تغيّرت الأحوال وهو على نفس الحال، من دماثة وكرم أخلاق.
بإسم كلّ من في هذه القاعة، وبإسم كلّ من عرفك وأحبّك، سنحفظ في ذاكرتنا ما علّمتنا من دعة ولطف، وستبقى لك في قلوبنا المحبّة والودّ والاحترام، متمنين لك الصحة والراحة والسلام.
* ألقيت في حفل تكريم د. عدنان مروة لمناسبة تقاعده