الخيانة والعمالة، مفردتان تتردد أصداءهما بشكل متزايد، في مجتمعاتنا، وعلى لسان الكثير من السياسيين المتخاصمين، وهي فعل تؤدي ممارسته، إلى توهين الأوطان وخرابها، والمؤسف أنّ هناك الكثير ممن يقومون بها، عن قصد أو غير قصد، مع نوع من التباهي والتعالي، لذلك وتفاديًّا للالتباس، ينبغي التفريق بين من يمارس فعل المواطنية السليمة، وبين من يخدم الأعداء تحت عناوين ملتبسة، تعكس نرجسية مُطلقها، كمن يؤدي قسطه للعلى، لتصبح فعلًا مشروعًا ومشرعنًا في آن، وكفى..

إذا كانت المواطنيّة تتمثل في أعلى درجات الانتماء للوطن، تترسم معالمها بقيم مبثقة من مباني المجتمع، من هنا يمكن للوطن أن يشكل المرتكز الأساس لتحديد ماهية أيّ مفهوم أو مفردة تُطلق، برمزياتها ودلالاتها وأبعادها، والممارسات هنا تُشكل الفيصل بين الخيانة والوفاء.

ففي موجبات الميثاق الوطني، ونصوص الدستور، الخيانة، هي جريمة يرتكبها أيّ مواطن يعبث بأمن بلاده ومؤسساتها ومواطنيها، لصالح العدو، والتي قد ترقى عملية الإخلال بها إلى مرتبة الخيانة العظمى... 

وقد لا تقتصر الخيانة على من أقدم على خيانة الوطن، بل تشمل أيّ مسؤول يتقاعس عن القيام بمسؤولياته، فيسيء استخدام السلطة ما يلحق ضررًا بمصالح وطنه، وقد تتمثل الخيانة في من يقوم بممارسات تتعارض مع قيم المجتمع ويتسبب في إيذاء الآخرين بالقول والفعل. وقد يكون الخائن عميلًا عند عدو الوطن.

قد تكون هذه المحددات لمفهوم الخيانة بشكل عام، ولكن الأهم من كل ذلك هو تشخيص مكامن هذه الخيانة، خاصّة لجهة العدو، لا سيما عندنا في لبنان، التي تبدو فيه الخيانة أو العمالة بمثابة تعبير عن وجهة نظر، لغياب المشخص الحقيقي، وخضوع ذلك للاجتهادات والتأويلات، وما يزيد من التشويش، من يخطىء في تشخبص العدو، فيحسبه صديقًا، فيتعامل معه على هذا الأساس، ويحسب نفسه أنّه يحسن صنعًا، كما أن هناك بعض المكونات التي تطلق العنان للسانها السليط فتتهم وتعمم، في وقت تحاول مصادرة آخرين، لتمارس عليهم نوعًا من الإرهاب الفكري أو الثقافي.

ولمزيد من الدّقة، في تحديد معنى الخيانة، ومن يمارسها، ينبغي معرفة من هو العدو ومن هو الصديق؟ وعندها يسلك تحديد معنى الخيانة مساره السليم، وحتى نرفع الالتباس وبصريح العبارة، هل يُعتبر الكيان الصهيوني عدوًا أم صديقًا؟ فإذا كان عدوًّا ساعتها يطلق على كل من يتعامل معه، أو يروج لأفكاره، أو يصارع من يقف في وجه أطماعه، أو يتواصل معه، عميلًا وخائنًا، أمّا إذا كان يعتبره صديقًا أو أنّه يقف من أطماعه موقفًا حياديًّا، فذلك يجعله على حافة التناقض مع موجبات السيادة والحرية والاستقلال، كما في موقع المتنازل عن كيانه، حيث ما يزال الدستور يعتبر حتى الساعة أنّ الكيان الصهيوني عدّوًا. 

ممّا تقدم، ووفاقًا لهذه المقاييس والمحدّدات، بعتبر الكيان الصهبوني عدوًا مع النظر إلى طبيعته العدوانية، وفي اغتصابه الأرض وانتهاكه المحرمات والمقدسات وتشريد شعب بأكمله وإذاقته المرارات والويلات، وأكثر من ذلك، أطماعه واعتداءاته ومجازره، التي ارتكبها في وطننا لبنان، وهو كان ولا يزال يمثل تهديدًا وجوديًّا لبلدنا لبنان. 

ولنذهب في اتجاه آخر، حيث يعتبر فريقًا من اللبنانيين أنّ سوريا عدوًا له، واستطاع أن يحرر لبنان من الاحتلال، دخلت لبنان، تحت عنوان قوات الردع العربية، بقرار من جامعة الدول العربية، بمشاركة خمس دول عربية، هي: مصر، السعودية، السودان، اليمن ، الإمارات، خلال الحرب الأهلية اللبنانيّة، بناء لطلب من الرئيس اللبناني سليمان فرنجيّة، لحقن الدماء وضبط الأمن، لكن بعد فترة تبدلت المواقف، وانقلبت الأمور، وأصبحت سوريا هي العدو لبعض الأطراف وإسرائيل هي الصديقة، بل العكس حليفة لها.

وهنا بعيدًا عن المُحددات والمعايير الوطنيّة، وبحسب الميل والهوى، دخلت مقولة جديدة على الخط، ورصدت لها أموال طائلة، وأفردت لها منابر إعلامية وثقافية وإعلانية، تمثلت بمقولة "الاحتلال الإيراني"، مع تناس كلي وشامل للعدو الصهيوني، واعتبار شريحة واسعة من اللّبنانيين أعداء هوياتيين له، يجب تحرير لبنان منهم، مع كل ما يحمل ذلك من خطورة على الاجتماع اللبناني ككل، ويهدد وحدته الوجوديّة.

إنّها أزمة هويّة بامتياز، استخدمت وتستخدم فيها كل أنواع الأسلحة المحرمة للنيل من العدو المزعوم والموهوم، بأنّه أجنبي، ولكنه في الواقع هو داخلي في ما يسمى لبنان.... وبين الاتهام والاتهام المضاد، تم خوض الانتخابات النيابية بعناوين التحرير، من الاحتلال الإيراني، وفي ذلك اتهام مبطن بالخيانة والعمالة دون أن التلفظ بها، وفي المقابل يربأ هذا الطرف بنفسه عن أي تهمة له بالخيانة أو العمالة. 

ممّا تقدم يتضح أنّ هناك شرخًا واضحًا في النسيج اللبناني المزيف، لن يُرتق، وإذا رتق تبقى التشوهات ظاهرة في مشهديته، نتيجة الإدماء الباطني بلونه الداكن والمحتقن، حتى تأتي لحظة الانفجار المرتقب، وعندها على هذا اللبنان سلام.

من هنا نطلقها دعوة صادقة بالعودة إلى أسس المواطنيّة السليمة، المرتكزة في بناءاتها على هويّة واضحة وشفّافة، لنبني وطنًا يليق بنا، بعيدًا عن كل مسالك التلون والخيانة؟ وعليه إلى متى نبقى نمعن فتكًا بكرامة هذا الوطن، وننحر الوفاء فيه؟