بأقلامهم >بأقلامهم
لوحات الفنانين اللبنانيين الروّاد... لا تُقدّر بثمن!
لوحات الفنانين اللبنانيين الروّاد... لا تُقدّر بثمن! ‎الجمعة 3 06 2022 11:34 منير الحافي
لوحات الفنانين اللبنانيين الروّاد... لا تُقدّر بثمن!

جنوبيات

في كل مرة ألتقي مع الفنانين ومحبّي الفن في لبنان، أزداد شخصياً معرفة واطلاعاً على هذه الحركة العجيبة التي تشمل الفن والإقتصاد والثقافة، إضافة إلى علم الاجتماع! جَمعني مؤخراً غداء على مائدة أحد جامعي اللوحات مع هاني فروخ، ابن الفنان اللبناني الرائد مصطفى فروخ. هاني، حافظ إرث والده، شرحَ للحضور كيف بدأ الفن (التشكيلي) في لبنان. يقول: إن فروخ (مصطفى) حاضر في العام ١٩٤٧ عن «طليعة الفنانين اللبنانيين» في دار «الندوة اللبنانية» التي أسّسها ميشال أسمر وكان مقرها في شارع بشارة الخوري في بناية الغومون بالاس. (كانت تحوي أيضاً سينما بالاسم نفسه). يضيف فروخ: انه عندما أسس الرهبان الموارنة المدرسة المارونية في روما، كانوا يذهبون للتعلّم هناك، وكان قسم منهم يَمتلك موهبة الرسم. فكانوا يزورون المتاحف ويرسمون لوحات ويأتون بهذه اللوحات معهم إلى لبنان، وكانت هذه اللوحات تحمل مواضيع دينية كصور المسيح والقديسين والمريمات. ويضيف فروخ الأب في مذكراته، أنه عندما كان يدرس في روما في العامين ١٩٢٥ و١٩٢٦ كان يلتقي في الأماكن العامة والحدائق ببعض هؤلاء الرهبان الموارنة. ولأنّ فروخ لم يكن رساماً فحسب وإنما كان باحثاً، عاد من دراسته في أوروبا إلى لبنان، فأراد أن يعرف ويُعرّف، كيف بدأ الفن في بلده. عندئذٍ، بدأ بزيارة الأديرة والكنائس في الجبال. واكتشف أعمالاً جميلة لبعض هؤلاء الرهبان وانتخب منهم الأقوى فنياً وذكرهم في محاضرته الشهيرة في العام ١٩٤٧.

من أوائل الفنانين الرواد وأحد مؤسسي النهضة الفنية هو العلامة عبدالله زاخر. «فقد كان إلى جانب علمه، فناناً خلّف بضع لوحات، منها صورته. وقد زرتُ دير مار يوحنا الصابغ للرهبان الكاثوليك قرب الشوير، واطلعتُ على المطبعة التي صنعها بمعاونة الرهبان والأحرف الخشبية والنقوش التي حفرها وطبع بها أول كتاب في لبنان هو مزامير داود النبي، فأصبح كتاباً مدرسياً يتعلم به الأولاد». كما يذكر فروخ، الفنان كنعان ديب ديب من «دلبتا» الذي «درس على نفسه وأعطى صوراً تحتوي إحساسا وتصوفا عجيبا، والمصور نجيب يوسف شكري من دير القمر ١٨٩٧ ونجيب فياض وإبراهيم سربيه من بيروت ١٨٦٥ ودمشقيه وسعيد مرعي وعلي جمّال. وقد وقف معظم هؤلاء فنّهم على تصوير المراكب والمناظر الطبيعية والبحر». ويشرح لنا هاني أنّ هؤلاء الذين يقيمون على الشاطىء من الطبيعي أن يرسموا ما يَرون أمامهم وهو البحر. ويضيف فروخ الأب في محاضرته أن لوحات هؤلاء «امتازت بالدقة وقوة الملاحظة والأنوار. فتذكرنا صور سربيه بلوحات فنان البندقية كاناليتو Canaletto الذي وقف حياته على تصوير «ترعة البندقية» ومراكبها. وأشهَر صور سربيه اللوحة التي تمثّل استقبال الأمبراطور غليوم في مرفأ بيروت المزدحم بالسفن، وفيها تبدو معالم الزينة والمدينة». ويتحدث فروخ في محاضرته عن الضابط علي جمّال «الذي بلغ من وَلعه بتصوير البحر وأمواجه والمراكب أن سافر إلى القسطنطينية والتحق بالمدرسة البحرية حيث تخرّج ضابطاً. وقد لوّنَ لوحات تعد على كثير من الميزات الفنية، وأصبحت له في العاصمة العثمانية يومذاك شهرة ومكانة اجتماعية مرموقة وكان يعرف هناك بالبيروتي». ومن رواد النهضة الفنية أيضاً، سليم الحداد من عبيه الذي مارسَ فنه في مصر ونال فيها شهرة، ونجيب بخعازي الذي رحل لروسيا! ومن الفنانين الطليعيين مَن سافر لأوروبا ودرس الفن على كبار الفنانين مثل الفنان رئيف الشدودي الذي اهتم بتصوير الأشخاص. ويذكر فروخ أيضاً الفنان داود القرم الذي «كان أول مَن شَق طريق الفن الناضج بيننا وقُدّر له أن يسافر إلى مهد الفنون إيطاليا عام ١٨٦٥ حيث اطلع في المتاحف الكثيرة والمعاهد الفنية على أصوله وخبر أسراره ووقف وقفات طويلة أمام روائع العباقرة هناك أمثال دافنشي وميكالنجلو ورفائيل وفيرونيز وتيسيانو». ويعدّد هاني، بحسب قراءاته الخاصة، أسماء الفنانين اللبنانيين الذين درسوا في معاهد وأكاديميات وتخصصوا بالفن وأصبح الفن عندهم حرفة. ويذكر هاني، داود القرم، الذي يلقّب بـ»شيخ الفنانين» (١٨٥٢- ١٩٣٠)، حبيب سرور (١٨٦٠- ١٩٣٨)، خليل الصليبي (١٨٧٠- ١٩٢٨). ومن رجال الحقبة الثانية قيصر الجميل (١٨٩٨- ١٩٥٨)، مصطفى فروخ (١٩٠١- ١٩٥٧)، عمر أنسي (١٩٠١- ١٩٦٩). ويأتي بعدهم خليل زغيب (١٩١١- ١٩٧٦) وكان معروفاً بفنه «الطفولي» أو «الناييف». وبعد هؤلاء يأتي كل من صليبا دويهي (١٩١٥- ١٩٩٤) ورشيد وهبي (١٩١٧- ١٩٩٣).

بعد هذه المرحلة تبدأ المرحلة التجريدية. لأنّ جيلاً جديداً يومها كان قد بدأ يدرس في «جامعة الألبا» (الأكاديمية اللبنانية للفنون الجميلة) التي تأسست في العام ١٩٣٧. وبدأوا يتأثرون بالحركات الفنية التي مقرّها باريس وهو التجريد. وكان بيكاسو قد بدأ يُعرَف لدى الناس والفنانين وبدأت أعماله تُعرف في العالم أجمع. وبدأ بعض الفنانين يحصلون على مِنح من وزارة التربية للذهاب إلى الخارج. فيعودون إلى وطنهم متأثرين بالمدارس الغربية الجديدة. «كانوا يذهبون وهم يعلمون كيف يرسمون، ويعودون ناسيين الرسم»! من المُجددين، جان خليفة (١٩٢٣- ١٩٧٨) هيلين الخال (١٩٢٣- ٢٠٠٩) إيلي كنعان (١٩٢٦-٢٠٠٩) بول غيراغوسيان (١٩٢٦- ٢٠٠٣) شفيق عبود (١٩٢٦- ٢٠٠٤) حليم جرداق (١٩٢٧- ٢٠٢١) عارف الريس (١٩٢٨- ٢٠٠٥) إيفيت أشقر (مولودة في ١٩٢٨) إيغيت كالان (١٩٣١عاشت في الخارج) رفيق شرف (١٩٣٢- ٢٠٠٥) أمين الباشا (١٩٣٢- ٢٠١٩). ولائحة الفنانين الرواد تطول ويذكر منهم هاني، إبراهيم مرزوق (١٩٣٧- ١٩٧٥) الذي توفي شاباً. وحسين ماضي (ولد في العام ١٩٣٨) ورسم الفن الواقعي. فادي براج (١٩٤٠- ١٩٨٨) وحسن جوني (ولد في العام ١٩٤٢) ولقد تخصّصا بالفن الواقعي أيضاً. شوقي شمعون (١٩٤٢) جميل ملاعب (١٩٤٨).

ويشرح هاني أن فروخ (والده) تعلّم على يد حبيب سرور. وفروخ أثّر بالكثيرين. سلوى روضة شقير وهي رائدة النحت التجريدي وأهم شخصية من نوعها في لبنان والعالم العربي، تعلمت على فروخ وتوفيت عن حوالى ١٠٠ عام (١٩١٦-٢٠١٧). ومن المؤثرين في الفن الحديث سمير أبي راشد (١٩٤٧- ٢٠٢٠) الذي تخصّص بالفن السوريالي. ومحمد الرواس (١٩٥١) وهنيبعل سروجي (١٩٥٧) وفلافيا قدسي (١٩٦١).

ويتحدث هاني أمام الأصدقاء من فنانين ومُقتني فنون، أنّ الفرنسيين الذين انتدبوا على لبنان وسوريا بعد انسحاب الأتراك إثر خسارتهم في الحرب العالمية الأولى، أثروا كثيراً في الحركة الثقافية والفنية في لبنان. أتى الفرنسيون إلى بلادنا ومعهم عدد كبير من المثقفين. والرجل الفرنسي المهم الذي يذكره هاني هو مفتش المعارف الفرنسي «مسيو بونور» الذي أسّس للبنان نهضة ثقافية على الطريقة الفرنسية. وقد أنشأ المركز الثقافي الفرنسي. وكان رئيس الوزراء الفرنسي كليمنصو قد طلبَ من الجنرال غورو أن «يجعل من بيروت منارة للثقافة الفرنسية في الشرق». فأرسل كليمنصو «جيشاً» من الأدباء والشعراء والفنانين والرسامين والموسيقيين. ومن هؤلاء «مسيو بينار» الذي أسّس المدارس الفرنسية في لبنان. كما أتى الفنان الفرنسي جورج سير وسكنَ في بيروت، وميشليه ورامبو وغيرهم. تم تأسيس «النادي الفرنسي» حيث يجتمع المثقفون وينشئون معارض.

عندما أتى الجنرال ويغان إلى بيروت طلبَ من الفنان سعدي السينوي (فنان لبناني من أصول تركية) أن ينظّم له معرضاً للفن اللبناني كي يتعرّف الجنرال الى الفنون اللبنانية. وبالفعل أقام سينوي المعرض في مبنى البرلمان اللبناني الحالي، وتعرف ويغان الى الفن اللبناني وفنانيه. وبدأ الضباط الفرنسيون وغيرهم بزيارة الفنانين اللبنانيين في بيوتهم حيث في العادة تكون مراسمهم. وبدأ الضباط الفرنسيون يقتنون لوحات من الفنانين هنا. كان في نية الفرنسيين أن يرسم الفنان اللبناني على الطريقة الفرنسية، إلا أن الفنانين اللبنانيين كانوا أصحاب شخصية قوية فلم يستطع الفرنسيون تطويعهم. لم يقبلوا أن يمحوا ثقافتهم اللبنانية، لذلك رسموا الطبيعة اللبنانية والفلاح اللبناني وكل شيء لبناني. وظهر ذلك واضحاً في لوحات فرّوخ والأنسي والجميّل.

يروي هاني أنّ الجنرال الفرنسي ويغان اشترى من فرّوخ لوحة كلها خضرة وماء، اسمها «حديقتي» كانت معروضة في المعرض المذكور. (ماكسيم ويغان Maxime Weygan هو ثاني مفوض سامي عسكري انتدَبته فرنسا لحكم سوريا ولبنان من نيسان ١٩٢٣ إلى تشرين ثاني ١٩٢٤). بعد ذلك، أرسل الجنرال ويغان مرافقه «الليوتنان غاسيير» إلى بيت فروخ في البسطا ودعاه لشرب الشاي مع الجنرال في مركزه في آخر شارع بلس في رأس بيروت (قصر ألبير بسول استأجره الفرنسيون ليقيم فيه المفوض السامي). ذهب فروخ إلى الجنرال الذي استقبله وقال له: «دعوتك لأهنئك على فنك الجميل وعملك المُتقن»، كما ذكر فروخ في مذكراته. سأل ويغان فروخ: عندكم متحف أو أكاديمية للفن؟ أجاب بالنفي. وفي اللقاء نفسه أهدى فروخ لويغان لوحة مائية «أكواريل» وقال له: هذه ذكرى عن لبنان الذي تحبه «مون جنرال». وقبل مغادرة فروخ سأله الجنرال: هل تريد شيئاً؟ أجابه فروخ: نعم أريد شيئاً منك، وهو أن تحافظ على لبنان! أجاب ويغان: لا تخَف. وقد امتد اللقاء لخمس وأربعين دقيقة.

في ذاك الوقت، صار الفن اللبناني يقتني من الفرنسيين وغيرهم، وصارت لوحات اللبنانيين في بيوت باريس وغيرها من المناطق الفرنسية.

على الصعيد المادي، يؤكد هاني أنه طالما كان الفرنسيون في لبنان عاشَ الفنانون في نعيم لأن الأوروبيين كانوا يقدّرون الفن ويشترون اللوحات. و»عندما كنت صغيراً أتذكّر الضباط الفرنسيين وزوجاتهم (رايحين جايين) عندنا في البيت يشترون اللوحات». وكان الضباط يطلبون من الفنانين أن يرسموا زوجاتهم للذكرى. ويذكر هاني أنّ هؤلاء الضباط كانوا من الطبقة الارستقراطية المتعلمة. إذا أراد ضابط أن يشتري لوحة، كان يضع المال في مغلف ويتركه تحت كتاب أو بلطف على الطاولة ولا يعطيه للفنان باليد، احتراماً له ولفنه العظيم. وبحسب دفاتر فروخ في العام ١٩٣٥، فقد كان يبيع اللوحة المائية بحوالى خمسين ليرة أما الزيتية فكانت بمئة وخمسين أو مئتي ليرة. يقول هاني: حتى العام ١٩٤٣ عندما كانت العملتان السورية واللبنانية عملة واحدة، كانت كل ليرة ذهبية قيمتها ٥ ليرات سورية - لبنانية. وكان البيع إمّا بالذهب أو بالليرة. ولا ننسى أنه لم يكن يُعاصر فروخ سوى فنانين اثنين أساسيين هما الجميل والأنسي. فلنتخيّل كيف أنهم كانوا مسيطرين على السوق الفنية. لا شك أنهم قد جمعوا ثروة مالية إضافة إلى إرثهم الفني المهم جداً. بعد الاستقلال صار الفنانون يتعاملون مع اللبنانيين إثر مغادرة الفرنسيين فنزل المستوى الفني ومعه المالي. في ذلك الوقت لم يكن هناك غاليريات. كان مرسم الفنان هو الغاليري، فكان يأتي الشاري ليقتني من الفنان بالمباشر ومن وقت لآخر كان يقيم الفنان معرضاً في الجامعة الأميركية في بيروت (معرض فروخ ١٩٢٩) أو في مدرسة الصنائع (فروخ ١٩٣٢) أو في الأماكن العامة. بدأ ظهور الغاليريات في العام ١٩٦٥، فصار الفنان يعطي لوحته لصاحب الغاليري الذي يبيعها ويأخذ عمولته.

إلى فرنسا، حُملت لوحات فروخ وأنسي والجميل عبر الضباط والمثقفين وتوارثتها الأجيال هناك. هذه اللوحات لا تقدّر بثمن اليوم. فثقافتنا هي ثروتنا. علينا أن نبحث عن هذه القطع الفنية النادرة، التي تعبّر عن لبنان وفنه، الموجودة في أوروبا. مطلوب منا بالضرورة، أن نجد طريقة لنكتشفها ونكشف عنها.

المصدر : الجمهورية